يكاد يكون الشاهد الوحيد على الرعيل الأول من ممثلي المسرح والتلفزيون في لبنان. تغيب بعض الأسماء والتواريخ عن ذاكرته الثمانينية، لكنّه لا ينفي غرامه المطلق بالتمثيل رغم تقاعده. في قرية دميت الشوفية (جبل لبنان)، يمضي وقته بين الكروم. هناك، في بيته المجلَّل بصوره إلى جانب كبار الفنانين والسياسيين، ومنها صورته إلى جانب الزعيم الكوبي فيديل كاسترو، يستقبلنا الفنان القدير سليمان الباشا.
في تلك القرية، ولد عام 1926. عاد والده خطّار من الهجرة، فغادر الأرزاق والكروم في الضيعة، متوجّهاً مع شقيقه الوحيد إلى بيروت، ليفتح متجراً فيها. على مسرح مدرسة «رأس بيروت العلْوي»، مشى خطواته الأولى على درب التمثيل. أغرم ابن السادسة بهذا الفن «الذي يقرِّبك من الناس ويجعلك محبوباً». لم تساعد أحوال الوالد الابن على مواصلة دراسته، فاضطر إلى الالتحاق بالمتجر. لم يثنه العمل عن متابعة التحصيل العلمي في بعض المدارس الليلية المجانية في رأس بيروت. تمرّ 17 سنة، قبل أن يتلقّى الباشا دعوة لمشاهدة عرض مسرحي لعبد الحفيظ محمصاني في بحمدون. أيقظت المسرحية حنين الشاب إلى التمثيل. وفي طريق العودة، راحت فكرة امتهان التمثيل تراوده، وأسرّ بذلك إلى رفاقه. لكنّه عرف أنّ عقبة ستواجهه، هي نظرة والده إلى الفنّ باعتباره «باباً إلى المجون وعدم الانضباط». لكنّ ذلك لم يمنعه من التردّد على فرقة محمصاني التي كانت تجري تدريباتها في ساحة البرج. بعد محاولات عديدة، وتدخّل الوالدة، وتلويح سليمان بالذهاب إلى مصر لدراسة التمثيل، وافق والده على ممارسته فنّ الفرجة، شرط أن يذهب إلى المسرح بعد العمل.
التحق بفرقة محمصاني «من دون أجر»، وهناك تعرّف إلى موسى خاشو، وإلى وجوه أخرى لعبت في ما بعد دوراً بارزاً على الساحة الفنية في لبنان. بعد أشهر قليلة على انضمامه إلى الفرقة، مثّل الباشا في مسرحيّة «فيرجيني» المأخوذة عن رواية «بول وفيرجيني» للأديب الفرنسي برناردين دو سان بيار، وقدّمت في حينه في مناسبة الاستقلال في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943.
عام 1945، انتخب الباشا نقيباً لعمال الكوي والتنظيف، وبعدها مديراً لمغاسل فنادق «كومودور» و«كابيتول» في لبنان. عام 1951، انتسب إلى «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وركّز عمله الحزبي على الاهتمامات النقابيّة، ما أهلّه ليصير مسؤول النقابات داخل الحزب. «اقتصر نشاطي الحزبي على الشأنين النقابي والعمالي، مستلهماً أفكار كمال جنبلاط. وقد خضت في هذا المجال تجربة رائدة ومهمة» يقول قبل أن يضيف «حتى اليوم، ما زلت أشعر بثقل فقدان كمال جنبلاط».
بعد ثلاث سنوات على تأسيس «تلفزيون لبنان»، اتّصلت به زميلته السابقة في فرقة محمصاني نزهة يونس، وطلبت منه تأدية دور الأب في مسلسل «تحت السنديانة» للكاتب جورج طويل، وشارك فيه إلى جانب نزهة، وشقيقتها هيام، إحسان صادق، وإيلي صنيفر، وغيرهم. كانت حلقات العمل تبثّ على الهواء مباشرةً. «كنّا نأتي إلى التلفزيون عند الثالثة بعد الظهر، ونبدأ بالبروفات إلى أن يحين وقت العرض، فنقدّم عملنا مباشرة على الهواء. لم أكن أحتاج إلى التدريب، فقد استفدت من خبرتي المسرحية. كما أنّني لم أتلقّ أيّ أجر على أيّ حلقة من حلقات المسلسل، فقد كنت مكتفياً من مهنتي، في وقت كانت فيه أجرة الممثل في حلقة البث 15 ليرة لبنانية». في هذا الوقت، كان إحسان صادق قد بدأ ببث برنامجه «صندوق الفرجة» الذي بقيت حلقاته تبث مباشرة على الهواء لأربع سنوات، وسرعان ما التحق سليمان الباشا بهذا العمل، وأدّى أدواراً لافتة فيه.
من مسلسل «حكمت المحكمة» (1963) لالياس متى، إلى «كانت أيام» (1964) لباسم نصر، لمع نجمه تدريجياً، وخصوصاً في أدوار الأب المتشدّد، أو الرجل الجبلي المثالي المتمسك بالعادات والتقاليد. وترسّخ حضوره في ذاكرة التلفزيون من خلال مشاركته اللافتة في مسلسل «أبو ملحم» لأديب حداد وزوجته سلوى (أم ملحم)، الذي ظلّ يعرض بنحو متقطّع بين عامي 1967 و1976. «كنت صديقاً بالجيرة القديمة لأديب حداد، والأقرب إلى لكنته الجبلية المتميزة المعتمدة على استخدام حرف القاف، حتى أنّه قال لي مرةً: «اترك خصوصية هذه اللهجة لي، لأنك الوحيد الذي يمكن أن يتفوق عليّ فيها، فأنا اكتسبتها من طبيعة بيتنا وقريتنا. وقد أوحيت له بالعديد من عناوين ومواضيع الحلقات». منذ مشاركته في مسلسل «أبو ملحم»، صار الباشا يتقاضى 25 ليرة عن كلّ حلقة.
حنينه الدائم إلى بداياته المسرحيّة، دفع الباشا إلى تلبية نداء رائد المسرح الجوّال جلال خوري، ومرافقته في العديد من أعماله منها «جحا في القرى الأمامية» (1972) و«القبضاي» (1973)، و«الرفيق سجعان» (1974). كما وقف على الخشبة إلى جانب نضال الأشقر، وأنطوان كرباج، وليلى كرم، في مسرحية أخرجها برج فازليان، وكتب موسيقاها زياد الرحباني عن نصّ التركي خلدون ثائر بعنوان «أبو علي الأسمراني» (1974). كما وضع بنفسه نصوصاً أخرجها، وجال بها على المناطق خلال السبعينيات، وصولاً إلى القرى الجنوبيّة، منها «الموظف الكبير»، و«مصيبتي ابني»، و«استشهد غصب عنو».
لم يعر سليمان الباشا السينما الكثير من الاهتمام، مع أنّه شارك في فيلم «القناص» (1980) للمخرج العراقي فيصل الياسري، وفيلم «شبح الماضي» (1985) لجورج فياض. «لم أشعر بميل تجاه السينما، كنت أحسّ أنّها مصطنعة، وأنا كنت مولعاً بالمسرح، وبالتلفزيون الذي كانت أدوارنا فيه أقرب إلى الأداء على الخشبة، خصوصاً خلال فترة البث المباشر». من موقعه النقابي والإنساني، انحاز سليمان الباشا دوماً إلى حقوق زملائه الفنانين، وحلحلة مشاكلهم الوظيفية والإدارية. لهذا، كان من الساعين إلى ولادة نقابة تحضنهم، فأسهم في تأسيس نقابة الفنانين وفي تنظيم أمورها. وتمكن مع العديد من زملائه من تأسيس «صندوق التعاضد» للفنانين المنتسبين إليها عام 1999، وكان برئاسة إحسان صادق، فيما تولّى سليمان الباشا مسؤولية نائب الرئيس.
رغم تقاعده عن التمثيل منذ عام 2007 بعد مروره في مسلسل «شيء من القوة» لإيلي معلوف، إلا أنّه ما زال يداوم كلّ ثلاثاء في نقابة الفنانين في سنّ الفيل (شمالي بيروت) «لمتابعة أمور نقابية وصحية عالقة». أما عن اعتزاله التمثيل، فيقول: «لقد اخترت الوقت المناسب للاعتزال، وأنا على أبواب الثمانين، بعدما أعطيت هذا الفن كل طاقتي وعمري وأحببته من كل قلبي. كنت أمثّل لمتعتي الخاصة من دون أجر في كثير من الأحيان، منذ كان «تلفزيون لبنان» رائد المواهب والطاقات الفنية في لبنان والعالم العربي. وعندما صار كل واحد فيه يبحث عن مصالحه الذاتية، انهارت القيم مثلما انهارت هذه المؤسسة العظيمة وتشتّت شملها. أما فنانو الزمن الجميل، فلا أحد يشبههم اليوم».



5 تواريخ

1926
الولادة في دميت (الشوف/ جبل لبنان).

1943
بدأ مسيرته الفنيّة على المسرح مع فرقة عبد الحفيظ محمصاني

1963
إطلالته الأولى على شاشة «تلفزيون لبنان» في مسلسل «تحت السنديانة». وبعد أربع سنوات انضمّ إلى أسرة مسلسل «أبو ملحم» لأديب حداد

1980
شارك في فيلم «القناص» للمخرج العراقي فيصل الياسري

2012
يداوم في «نقابة الفنانين»
لمتابعة شؤون زملائه بعد خمس سنوات على تقاعده من التمثيل