كان عمّه مطلوباً للإنكليز في العمارة (جنوبي بغداد) بسبب مشاركته في «ثورة العشرين». هذا ما دفع والده إلى التوجّه صوب العاصمة. تزوّج هناك وتفاعل مع الحياة الجديدة، ليولد زاهر الجيزاني في حيّ الفحامة، على الضفة الغربية لنهر دجلة الذي يقسم بغداد نصفين. من ذلك الحيّ، كانت تنطلق التظاهرات السياسيّة، وفيه كانت تنصهر تقاليد المدينة وموروثاتها القديمة. تأثّر في طفولته بابن عمه المنتمي حينها إلى «الحزب الشيوعيّ العراقيّ». كان المتعلّم الوحيد الذي يحمل جريدة أو كتاباً بيده ويضع أقلام «الباندان» في جيب سترته.«كنت معجباً بشكل قريبي، لهذا تعلّمت القراءة والكتابة قبل دخول المدرسة الابتدائية». قبل أن يكمل عامه السّادس، هجّأ مقاطع من «ألف ليلة وليلة»، أوّل كتاب يقع بين يديه. وفي عامه السابع عشر، قرأ «تاريخ الطبري» وروايات دوستويفسكي وأعمال زكي نجيب محمود.

في هذه الفترة، تعرّف إلى فتاة أحبّها. علاقته بها، دفعته إلى البحث عن شعر غزليّ يهديها إياه. وجد ضالّته في مجموعة بدر شاكر السيّاب الأولى «أزهار ذابلة». لم يكتفِ العاشق بنسخ القصائد لحبيبته. كانت قصائد صاحب «أنشودة المطر» أوّل باب يعبر منه الجيزاني إلى كتابة القصيدة.
في هذه الأثناء، انهمك الشاب العشرينيّ في قراءة الشعر ليقتحم عوالم نازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، إضافة إلى ما كان يقع بين يديه من شعر مترجم. «كنت منعزلاً في تلك الفترة. حينها، تكوّنت لديّ نظرة عموديّة للأشياء من حولي. هذا ما قادني إلى التأمّل، وإلى قراءات أعمق في الفلسفة والرواية والتاريخ». بعد فترة ليست بطويلة، بدأ تأثير القراءات يعتمل في نفس الجيزاني. هكذا، هجر قصيدة العمود متّجهاً إلى التفعيلة.
أواخر الستينيات، تخلّى صاحب «الأب في مسائه الشخصيّ» عن عزلته. خرج الراهب من الصومعة، لينسج شبكة من العلاقات الأدبية في بغداد. صار ابناً بارّاً للوسط الثقافي. يجلس في المقاهي، ويقرأ المجلات والصحف الأدبية التي كانت تأتي من لبنان ومصر. في عام 1970، دفعه أصدقاؤه إلى المشاركة في مهرجان الشعر العراقيّ. كانت هذه المرة الأولى التي يقرأ فيها شعراً أمام جمهور. قصيدة واحدة كانت كافية لإشعال الحضور، بما فيه من شعراء معروفين كيوسف الصائغ. «بعد الأمسية، طلب مني الشاعران سامي مهدي وحميد سعيد الانتساب إلى اتحاد الكتاب والأدباء من دون شروط، مع أنني لم أقرأ إلا قصيدة وحيدة، فيما كان يجب على طالب الانتساب إلى الاتحاد تقديم ديوان شعري كامل». بعد انضمامه إلى الاتحاد، اتسعت رقعة اطلاعه الأدبي وعلاقاته في الوسط الثقافي. في هذا الوقت، التقى بعدد من الشعراء الشباب الذين شكّلوا في ما بعد صورة أدب السبعينيات العراقي، كخزعل الماجدي، وعبد الحسين صنكور، وشاكر لعيبي، وهاشم شفيق. «كنا نجلس أنا وهاشم شفيق في «مقهى المعقدين»، ونجد البياتي وأغلب شعراء الستينيات أمامنا».
قرأ الجيزاني أدونيس ليعرف كيف قوّض صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» بناء القصيدة القديم. لكن في الوقت عينه، كان يعتبر محمد مهدي الجواهري مثالاً للتمرّد: «صورته بشعره الكثيف جداً، وهو يرتدي قميصاً مفتوح الأزرار، وفي فمه سيجارة، لم تفارقني حتى اليوم. هذا التمرّد يستهويني». الإعجاب بالتمرّد، لم يكف عن الاعتمال في نفس الجيزاني. سنراه يكتب في عام 1976 قصيدة تخلط بين النثر والوزن. كانت هذه القصيدة التي نشرتها مجلة «آفاق عربية»، من أولى قصائد «النثر» أو «النص المفتوح» العراقية، حسب قوله. يعود الشاعر إلى السجال القديم ـــــ الجديد، حول الريادة العراقية في كتابة قصيدة النثر: «حتّى عام 1976 لم أقرأ أي قصيدة نثر لشاعر عراقيّ. فاضل العزّاوي لم يكن قد كتبها. حتّى سركون بولص، كانت تصلنا في ذلك الوقت قصائده الموزونة فقط. قرأت نثراً آنذاك للشاعر قحطان المدفعي». لم يلتزم الجيزاني المبادئ التي وُضعت للنصّ المنثور، المتمثلة في التكثيف والتلقائية. راح أبعد من ذلك، ليكتب مطوّلات تعتمد بؤراً شعرية عدة يربط بينها خيط واهٍ من اللايقين والتكسير لبنية النص.
منذ عام 1978، راحت أعمال الجيزاني الشعرية تتوالى. هكذا، صدر له في ذاك العام «تعالي نذهب إلى الغابة»، ثم «من أجل توضيح التباس القصد» (1980). بعد هاتين المجموعتين، التحق بالخدمة العسكرية. أثناء وجوده في جبهة الحرب المشتعلة مع إيران، صدرت مجموعته الثالثة «انكسري يا عربة الغزاة» (1981) التي جلبت له العديد من الاتهامات. انتقده البعض لاشتغاله في المجموعة على «محاباة نظام البعث» و«مديح صدّام حسين». لكن الجيزاني يرفض هذه الاتهامات. «كتبت المجموعة تعبيراً عن الولاء للعراق ورفضاً لاحتلال الإيرانيّين» يقول. يسكت فترة، لتطغى أصوات السيارات والزحام على جلستنا في أحد مقاهي بغداد. فجأة، يخرج عن سياق الحديث ويقول: «كانت قصائدي تستشرف اتجاه البلد نحو الانكسار». لعلّ قصيدته المشهورة «أنت وحدك تجمع كسورنا» التي أهداها الى السياسيّ العراقيّ جعفر أبو التمّن (1881 ـــ 1945)، عبّرت عن رؤيته هذه، حيث ضمّن فيها خيبته من عدم نشوء دولة حقيقيّة في العراق بعد أربعة عقود تقريباً على رحيل أبو التمّن: «مبكراً انتهى وقتك/ والعراق ينحل/ مثل جدار من الطين وسط الماء/ هذه القصيدة لك وأنت وحدك/ تجمع كسورنا المرمية في الشواع».
بعد حربَين دمويتين أهلكتا العراقيين، وأوصلتا العراق إلى طريق مسدود، بدأ المعارضون من بينهم شاعرنا، بالاتجاه شمالاً. في كردستان، وجدوا ملاذاً آمناً لهم من ديكتاتورية صدّام حسين. لكن الجيزاني لم يجد من يبحث عن حرية وديموقراطية بين المعارضين الذين «لا يختلفون عن صدّام كثيراً، جهة نزعة الاستبداد المتأصلة وحبّ امتلاك المال». هكذا، كان عليه أن يفارق «عراقه»، ليختار منفاه. كانت أميركا هي الوجهة. من هناك، ظلّ يراقب وطنه حالماً طوال ست سنوات، إلى أن جاء سقوط نظام صدام في عام 2003. ظنّ الشاعر أن في رحيل المستبد خلاصاً للعراق، وتحقيقاً لما كان يحلم به. عاد إلى وطنه، لكنّه فوجئ مرة أخرى بأنّ ثقافة الماضي لا تزال تسود اليوم. لم تطلْ زيارته، كما لن تطول زياراته اللاحقة. في زيارته هذه التي قُدّر لنا أن نلتقيه فيها، لا يبدو متفائلاً كثيراً. «لم أرَ في بغداد إلا أبناءها الكئيبين» يقول قبل أن يستدرك: «هم كئيبون، لأن مدينتهم معطلة وبطيئة».



5 تواريخ


1948
الولادة في منطقة الكرخ، بغداد (العراق)

1972
انضمّ إلى عضويّة «الاتحاد العام
للأدباء والكتّاب في العراق» ولم يكن
في رصيده إلا قصيدة واحدة

1978
صدور ديوانه الأوّل «تعالي نذهب إلى البرية» (دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد)

1997
سافر إلى منفاه الاختياري في الولايات المتحدة ولا يزال حتى اليوم مستقراً هناك

2012
صدور الطبعة الثالثة من ديوانه
«الأب في مسائه الشخصيّ»