لم تتغيّر لغته العربية «المكسّرة». بقيت على حالها منذ مجيئه إلى لبنان في بداية الستينيات، آتياً من إسطنبول. في بيروت، وجد الشاب الأرمني المتخرّج حديثاً من دراسة المسرح، ما يبحث عنه. تعرّف إلى شباب لبنانيين لديهم الهاجس المسرحي ذاته، كجلال خوري، ومنير أبو دبس، وريمون جبارة ... إلى أن جمعه أنسي الحاج بالرحابنة، لتبدأ رحلة شراكته الطويلة معهم.
ولد فازليان في إسطنبول عام 1926. كان أبوه، هايك فازليان، تاجراً وثائراً معارضاً لنظام الحكم التركي، ومغرماً بالمسرح. شغَفُ الأب بهذا الفن كان سبباً في إرسال الابن للدراسة في «أكاديمية المسرح الخاصة» في إسطنبول. هناك، تلقى الشابّ تعاليمه من أستاذه الألماني كارل إيبرت، الهارب من بطش النازية. بعد أربع سنوات قضاها في الأكاديمية، تخرّج حاملاً صفة «مخرج مسرحي». اتجه لإكمال معارفه لدى مؤسس المسرح التركي الحديث، محسن آرطغول، تلميذ ستانسلافسكي، وكانت باكورته الإخراجية «البخيل» لموليير التي قدّمها على المسارح التركيّة.
عام 1951، راوده هاجس الرحيل، بحثاً عن مساحات حريّة أوسع. هكذا جاء إلى لبنان ليجد مبتغاه. في عام 1953، أعاد تجربة «البخيل» على مسارح بيروت، فانطلقت شهرته في الوسط الثقافي. صار اسمه يتردّد في الصحف الأرمنية، ما دفع أرمن سوريا إلى دعوته لعرض المسرحية نفسها مرة ثالثة هناك. إقامة مُخرج «الزنزلخت» في العاصمة اللبنانية، وطدت علاقاته بمخرجين وممثلين يحملون الهاجس نفسه. هكذا، صار صديقاً لشريف خزندار، وجلال خوري. ومن خلالهما تعرّف إلى منير أبو دبس، الذي عرّفه بدوره إلى أنطوان ولطيفة ملتقى، وريمون جبارة. كانت هذه «الشلة»، التي بات فازليان أحد نجومها، تبحث عن «مسرح ذي واجهة عالمية». لم يطل الأمر، حتى اقترح صاحبنا على ملتقى وجبارة إعداد «كوميديا الأغلاط» لشكسبير. أنيطت ترجمة النصّ بأنسي الحاج الذي أبدع في نقلها بلغة حيوية، في حين كان على برج أن يُخرج العمل. عام 1963، عُرضت المسرحية في مهرجان «راشانا»، ونالت إعجاب الجمهور والصحافة. «كانت هذه بداية علاقتي الفعليّة مع الجمهور اللبناني والعربي». عام 1959، تزوّج بالفنانة التشكيلية الأرمنية سيرفارت كريكوريان، ومنها أنجب ابنه هاروت المايسترو الشهير.
قدّم أنسي الحاج برج فازليان إلى عاصي ومنصور الرحباني. في ذاك الوقت، كان الأخوان يبحثان عن مخرج لمسرحيتهما «بياع الخواتم» (1964) لتقديمها في فعاليات «مهرجانات الأرز». «ذهبت أنا والمخرج صبري الشريف إلى الأرز. كان من المفترض أن تقدم المسرحية في الهواء الطلق. سألت الشريف عن الموعد الذي تغرب فيه الشمس في هذا المكان؟ فأجابني: قرابة السادسة. قلت: إذاً، في هذا الوقت تبدأ فيروز بالغناء، ليظهر خلفها قرص الشمس بلونه القرمزي. وهذا ما حدث بعد شهرين فعلاً، ما أثار اهتمام الجمهور وإعجابه». استمرّ عرض المسرحية ثلاثة أيام، قبل أن ينتقلوا ليقدّموها على خشبة «البيكاديللي» في الحمراء. «بعد هذه المسرحيّة، أخرجت أغلب أعمال الرحابنة حتى تاريخ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975». تعاون مع عاصي ومنصور على إنجاز العديد من أعمالهما المسرحيّة الضاربة من «هالة والملك» (1967)، إلى «الشخص» (1968)، مروراً بـ«يعيش يعيش»، و«لولو» (1974)، وصولاً إلى «ميس الريم» (1975).
بعيداً عن المسرح الغنائي، وضع فازليان توقيعه على أعمال مهمّة خلال الحقبة الذهبيّة للمسرح اللبناني الحديث، أبرزها «الزنزلخت» (1969) لعصام محفوظ من بطولة نبيه أبو الحسن وريمون جبارة وفيليب عقيقي، و«اللعب عالحبلين» من اقتباس ريمون جبارة وبطولة شوشو (حسن علاء الدين). افتتاح المسرحيّة الأخيرة كان مقرراً ليلة 28 أيلول (سبتمبر) 1970. يتذكّر فازليان: «كنت مع شوشو في الكواليس، في وقت كانت فيه فريال كريم تؤدي دورها على المسرح. وإذا بالجمهور يبدأ بالخروج، ظننّا أن عملنا قد فشل، لكن بعد قليل، دخل مازن علاء الدين شقيق شوشو، وصرخ: أنزلوا الستارة، لقد مات الرئيس جمال عبد الناصر».
لم يقتصر جهد فازليان الفني على الإخراج. مثّل في العديد من الأعمال الأرمنية والمصرية، وفي أفلام الرحابنة مؤدياً دور الضابط التركي في فيلم «سفر برلك» (1967) ودور الميكانيكي في فيلم «بنت الحارس» (1971). قدّمه المخرج الأرمني كاري كرابتيان عام 1969 بدور الضابط الإسرائيلي في فيلم «كلنا فدائيون» من تأليف أنطوان غندور. لكنّ قصّة ذلك الشريط انتهت بطريقة مأسوية. قُتل كرابتيان مع سبعة من المشاركين في العمل، بعد اندلاع حريق خلال تصوير المشاهد الأخيرة. «أنهيت تصوير مشاهدي وعدت إلى البيت. كان من المفترض أن يصوّروا مشهد تدمير أحد المرابع الإسرائيلية. لكن استخدام مصابيح عديدة وغيرها، أدى إلى اشتعال حريق في الصالة تحت الأرض. مات كرابتيان بينما كان يحاول إنقاذ الممثلين. في اليوم التالي، بثّت الإذاعة الإسرائيلية تقريراً عن الحادث خلال نشرتها الإنكليزية، قائلةً: لقد أدى الحريق إلى مقتل المخربين ونجاة الضابط الإسرائيلي!».
يستطرد برج فازليان في الحديث عن علاقته بالأخوين رحباني. «كنت من أشدّ المقربين من عاصي. أسرّ إليّ خلال العمل على مسرحية «ناطورة المفاتيح» بشعوره أنّه سيدخل في نفق مظلم. بعد شهرين، أصيب بنزف حادّ في الدماغ. مُنع الجميع من الدخول إليه باستثنائي. تنهمر دموعه وهو يتذكّر. يصمت قليلاً، ويتوقّف عند العلاقة المميزة التي جمعته بفيروز، وكيف لم تنفكّ هذه الأخيرة تردّد في بعض لقاءاتها الصحافية: «لن أنسى الدرس الأول الذي علمني إياه برج فازليان، أن أغني لشخص واحد، كأني أغني للجميع».
بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، ترك برج فازليان مسكنه في منطقة الظريف، وهاجر إلى كندا وبقي فيها عشرين عاماً. حين عاد، أنجز مسرحيّة «جبران خليل جبران» (1996) عن نص غبريال بستاني، و«حبل المشنوق» (1999) للكاتب الكندي روبير غوريك الذي كان قد قدمه خلال إقامته في كندا.
بعد مسيرة قدّم فيها أكثر من 160 عملاً مسرحياً، عرض على «وزارة الثقافة اللبنانية» مشروع إقامة متحف أو معرض دائم للفنانين اللبنانيين وأعمالهم، «من أفيشات وبوسترات وثياب وديكورات، وما كتبته الصحف عنهم وعن أعمالهم. وقد أبدت السيدة فيروز استعداداً لتقديم ثوبها المسرحي الأول. لكنّ وعود الجهات الرسميّة بقيت حبراً على ورق». يتحسر أحد أبرز روّاد الخشبة اللبنانيّة على حال الفنّ اليوم، «صار الناس يصفقون للفوضى والصراخ». أحبّ فازليان لبنان كثيراً، رغم أنّه لم يحصل على الجنسية اللبنانية، وما زال يحمل هويةً قيد الدرس. يحبّ «مساحة الحرية الكبيرة فيه، ومساحة الفن والإنسانية، رغم ما شهده من حروب؛ هذه الحروب الوهمية التي تجتاح العالم العربي اليوم تحت عنوان الديموقراطية».





5 تواريخ

1926
الولادة في إسطنبول (تركيا)

1964
أخرج مسرحيّة «بياع الخواتم» أول أعماله مع الرحابنة، وكرّت بعدها السبحة ليخرج مسرحيات الأخوين حتى «ميس الريم»

1969
أنجز عمله المرجعي «الزنزلخت» عن نصٍّ للأديب عصام محفوظ

1996
بعد هجرته إلى كندا، عاد إلى بيروت، وقدّم مسرحية «جبران خليل جبران» عن نصّ لغبريال بستاني.

2012
يؤدّي دوراً في مسرحية «أوبرا الضيعة» لفرقة «كركلا» التي تتواصل عروضها على خشبة «مسرح كركلا» (سن الفيل/ شمالي بيروت)