الروح الخليطة بين حسم وحيرة، تمرّد وخضوع، هل ينطبق عليها وصف التطرّف؟ قيل لي «لا أحبّ تطرّفك». من جهتي أحبّ المتطرّفين ولكنْ للأسف أنّي من ذوي تلك الروح الخليطة. التطرّف الذي يبدو أحياناً عليّ، غالباً ما يقتصر على تصعيدِ أنين أو دعاء، أو واحدٍ من كشوف الذات. أحبّ المتطرّفين لأنّهم يأخذون عنّي مشقّةً لستُ أهلاً لمثلها، وأحسدهم لأنّهم يعرّضون أنفسهم بمواقفهم العارية لما لا يقدر عليه غير الأبطال. أمّا أنا فمن النوع الهرّيب، ولا أكون غير نادم إلّا في السباحة بين التيّارين.أدّعي الصدق، ولكن عند فحص الضمير أنا صادق إلى حدّ. وليس دائماً. وإنْ سُئلت لماذا أتذرّع بأن المجتمع لا يتقبّل، أو بكذا وكيت، متجاهلاً أنّ الصدق هو نعم نعم أو لا لا، وأنّه مهما كان ثمنه فهو أغلى من ثمنه. أنا صادق عندما لا يكلّفني الصدق شيئاً خطراً.
وإنْ بدا عليّ تطرّف بعد هذا فأين يكون؟ في استعراضات الإنشاء؟ في تمويه التذبذب بالغضب والصراخ؟
أما إذا كان تطرّف الشغف فلا شجاعةَ فيه.
لا أمشي واثق الخطوة إلّا للاعتراف بالذنب.
قارئٌ عزيز انتقدني على مقطع الاعتذار في صفحة السبت الماضي، قائلاً إنّه، لجهته، يفضّل قول محمود درويش: لا تعتذر عن شيءٍ.
الفرق في القوّة والضعف. محمود قوي، حمل قضيّة بلاده على كتفيه والتصق بها. أنا ضعيف، لم أستطع أن أحمل قضيّة بلادي ولا بلاده على كتفيّ وأتماهى بها وتوصف بي وأوصف بها. ليس فيّ جنديّ بل هاربٌ من الجنديّة، وأنا أوهى من أن أكون محازباً، كأنّ الزئبق لديّ أقوى من الجذور.

■ ■ ■


لا يُلْعَبُ مع الصدق،
ترميزه تحوير وتصريحه فضيحة
وفضيحته مسرحيّة.

■ ■ ■


الحرف الذي يَنشر كتاباتي لا يشبهني.
كنتُ أريده صوتاً حيّاً، لحماً، قبضة.
كنتُ أريده حاسّة.
مثلما البصر حاسّة اللغةُ حاسّة.

■ ■ ■


تطرّفٌ وحيد يُفحم هو الذي يدفع صاحبه ثمنه باكراً، قبل أن يصبح فخّاً.
كان ينبغي أن يطيحك عهدَ كانت الرعونة تُعفي من الألم.

■ ■ ■


الصدق، لنعد إلى الصدق، الصدق بحثٌ لا هويّة. سعيٌ مع خطر الغرق. لا غايةَ من الصدق. «هل تخونني؟ هل أغشّها؟»، افترضْ أدركتَ الجواب، هل حقّقتَ الهدف؟ لا، الأرجح أنّها ستكون بدايةً لبحثٍ جديد.
الصدقُ ليس الحقيقة. إنّه الشفافيّة، بلّورُ الذات، استحمامٌ لا يتوقّف. ما يترتّب عليه نادراً ما يتمّ في الواقع. كثيراً ما يُستحسن ألّا يتمّ.
ثمّة في بعض الصدق فظاظةً أو خيانة هما الوجهُ المعتمُ للقمر.

■ ■ ■


للصدق صدمات كهربائيّة لا يُشفى منها المتلقّي.
عاشقةٌ محرومةٌ تبثّ لواعجها دون رقابة، كأنّها تحت تأثير المخدّر. امرأةٌ محتشمة تدلق فجأةً وبصوتٍ حار وناعم مخزون كبتها الجنسي، بالألفاظ العارية، المنتقاة بعناية لإصابة الهدف.
صدْقٌ وحشيّ كهذا يزلزل الرجل المقصود. يمزّق ستار الهيكل. تكفي ذرّة من الاستعداد لدى هذا الرجل لكي يقع فريسةً للمرأةِ الطالعةِ من القمقم.
ما يستودعه فيك المُعترِف يريحه ويسحقك.

■ ■ ■


أكثر ما يستوقف في صدق هذا البوح لدى هذه المرأة طبيعة مرجعيّته. صدقٌ فاحش، إذاً لا يستند إلى الإيمان الديني. صدقُ الضعيف المحروم المقموع، إذاً صدقٌ بريء.
مرجعيّة هذا الصدق ليست من نوع «ما وراء الخير والشرّ» بل من نوع ما «قبل» الخير والشرّ.

■ ■ ■


«ملكوتُ الله هو فيكم وخارجكم أيضاً» يقول إنجيل توما. نستطيع أن نتدبّره فينا، كيف نتدبّره خارجنا؟ بأيّة سلطة؟ ليس بالدين، قطعاً، فالدين يَفْصل ولا يَجْمع.
ماذا لو كان الخارج امتداداً للداخل، والعكس؟
ما منتهى براءة الداخل؟ الصدق؟
لا، الحبّ.
الحبّ يتضمّن الصدق والعكس ليس محتّماً.
الحبّ.
أهمُّ ما مَثّلهُ المسيح.

■ ■ ■


الصدقُ يغسل الروح والحبُّ يغسل الصدق.
الحبّ أُمُّ الأشياء.

■ ■ ■


إنْ لم يكن لي شيء فلمَ أحرص؟ وإنْ لم يكن منّي شيء فلمَ أحسبُ أنّ شرّي هو شرّي وأتعذّبُ لأنّي أندم بعد فوات الأوان؟
خارج الإيمان لا جواب. داخل الإيمان يتّخذ الجواب شكلين: القناعة الأشبه باليأس السعيد، والطاعةُ الحبلى بالمزيد من الأسئلة.
في كلّها شيءٌ من الصدق مع الذات.
ولكنْ لمَ لا أنفكُّ أرى هذه الذات مقموعة، مرائية، متخادعة!؟

■ ■ ■


الصدق، كالجنس، يأتي معه بحبّه.
الصدق لا يُحتّم العاطفة. قد يوجَد بجوهرٍ بارد. يمكن أن يدفع الانفعال إلى الصدق من دون أن يصحّ العكس وجوباً.
ليس للصدق عمر. في الطفولة يدعى طفولة وفي الكهولة شجاعة وفي الشيخوخةِ خَرَفاً.

■ ■ ■


الصادق ليس دوماً صادقاً. يدخل في حالات إخفاء كما تدخل الشمس في رفوف الغيم. وهو يكذب أحياناً، لكنّه يكذب «من صدقه».
أو من موضعٍ أعمق من الصدق يدعى المحبّة.

■ ■ ■


التحجُّر وارد. شأن الصدق شأن الجمال والحقّ. كلّها مهدّدة بالتحجّر إذا كانت طبيعتها صخريّة. كلّ ما يرفض التشكُّل مع التغيّرات معرّضٌ للجمود. وبعضنا يفضّل الجمود. تمثال الجمال لا يَخذل وجسدُ حسناء قد يَخذل. حبّ الغائب كامل صافٍ. الغائبُ أيضاً متحجّر.

■ ■ ■


عودةٌ إلى التطرّف. أنا له في الفنون الجميلة، لا في شؤون الحكم والسلطة. أنا له في الفكر لا في المؤسسات التي تدّعي تطبيق هذا الفكر. بلا تطرّف ينكسر جناح الروح، شرط أن نظلّ في حقل الروح ولا ننحدر إلى الأسلحة الماديّة.
تطرّفتُ وجاءت الحرب الأهليّة تُندّمني على تطرّفي. تطرّفتُ وتأذّى أشخاصٌ أحبّاء. في التطرّف، ولو بالحقّ، غيرة ضارية. عاقبةُ التطرّف الإرهاب. قد نحبّ بإرهاب، وليتنا نضمن أن لا نعرف الإرهاب إلّا في الحبّ، لكنّنا قد نكره أيضاً بإرهاب، وقد يُدار العالم كلّه، كما هو حاصل، تارةً بالإرهاب المباشر وطوراً بحجّة الحرب على الإرهاب. ولا يدفع الحساب غير الأبرياء.

■ ■ ■


اسألني عن كلامي إذا أردت، واسألني أيضاً عن صمتي.

■ ■ ■


شرط الصدق لا ينطبق على الجمال. هنا ندخل في عالم السحر.
الإحساس بالجمال مرجعه ثلاثة: سذاجة، شهوة، خيال. إذا أضفنا الصدق، فبالاتجاه الذي سبق ذكره لدى امرأةِ البوح الصاعق.
المعشوقة مضطرّة إلى التزام الطقوس الجماليّة من أجل الجهوزيّة الدائمة لفتنةِ العاشق. أقلّ «صدق» في التصرّف كأنّها وحدها يعرّضها للهزيمة.

■ ■ ■


من أغرب ما يكون أنّ للصدقِ دروباً يلتقي فيها مع الخداع، يمشيان يداً بيد، واحدهما يغطّي الآخر حالما يخطر شبحُ طرفٍ ثالث.
الظاهر والباطن، وعلْمهما عند المتصوّفين، ولا سيّما شعراء الفرس.
لا يلتقي الصدق والحيلة فقط بل الكلمة ونقيضها، الخمر والوجد الإلهيّ، الخمّارةُ والدير، الحبيبُ والله...
نحن هنا في صلب تقاليد محض شرقيّة، حيث أنتج الخوف روائع، وابتكر العقل، للتعبير عن نفسه، لغةً فوق اللغة، بل لغاتٍ فوق اللغة، لا تزال كنوزها تتحدّى المحلّلين وتشكّل منائر للمبحر في الباطنيّات.

■ ■ ■


بدون الوداعة قد يجنح الصادق إلى الوقاحة، إلى الفجور. الصادق الجارح صادقٌ بلا محبّة، والمحبّة مطهر الصدق.

■ ■ ■


هل الممثّل الناجح صادقٌ أم كاذب؟
صادق بقَدْر ما ينجح في الكذب.
أي في التمثيل.
الممثّل البارع هو الذي يجد دوماً مكاناً خالياً في نفسه ليلعب فيه دور شخصٍ آخر. هنا تلتقي الشفافيّة والكثافة، الفراغ والملء، الأنا والآخر.
هنا يصبح الصدق في اللعب.
... ولكنْ أليس هو هكذا خارج المسرح أيضاً؟ في كلّ علاقة؟ في الانفراد بالذات؟
أليس كلٌّ منّا مسرحه؟

■ ■ ■


أنقى أنواع الصدق ليس الأمانة ولا الدقّة، بل، كما يعرف الجميع، الفناء في الحبّ.