طبول الحرب. الواحد ينتظر أن يبدأ الآخر. «أبطال» المنطقة في مآزق لا يخرجهم منها إلّا الانفجار الكبير. يتعازمون على الحرب. ويخشونها. غزل وحذر. البعض يهدّد إسرائيل وكأنّه يغريها لتبدأ.ابدئي يا إسرائيل! افتدينا يا إيران بغارةٍ عليكِ! غارة وينفجر العالم العربي. ولمَ لا؟ هل مَن يلمح مخرجاً آخر؟ كان العرب يتحركشون بإسرائيل لتهجم، عرب اليوم شلّحتهم إيران القضيّة الفلسطينيّة فبات المفتاح في يدها، ومن عندها قد تكرّ السبحة: «حزب الله» سوريا وفي المقابل السعوديّة قطر إلى آخره. وبالطريق يروح لبنان.
طبول الحرب. تفجير مبنى الأمن القومي في دمشق يعمّق الهوّة بين فريقي المأساة إلى أبعد ما وصلت إليه حتّى الآن. إذا لم تحصل مفاجأة خارقة، الآتي أعظم.
ومجلس الأمن يتخوّف من ارتدادات الحرب السوريّة على لبنان. لبنان هذا ألا تنسونه لحظة؟ ما هذا الحبّ العارم؟ تصميمٌ على نقل الصراع إلى لبنان تحت ستار الخشية عليه.

■ ■ ■


وأسوأ من قصف المدافع رصاص الكلام. لا يعرف السياسيّون حريّة التعبير إلّا لغرضين: تنويمُ الناس أو بذر الفتنة. وأكثر ما يُضحك في لبنان مجالس الوزراء: مصرع أربعة من أركان النظام السوري... وتعيين مدير عام لوزارة «الثقافة» في لبنان.
وزارة «الثقافة» في لبنان غير موجودة. إنّها ملحق لملحق لملحق، في كنف حكومة من أشباه المخاتير ونواطير الكروم.
عذراً. الحكي في السياسة غوصٌ في الوحل. تتلطّخ الكلمات بالتفاهة، بحضيض الدسائس والنكايات.
البلدان الصغيرة لا تحتمل حكومات الأقزام. البلد الصغير يتطلّب حكّاماً أنبياء. تعويضُ الكِبَر المعنوي والفكري عن الهشاشة الديموغرافيّة وضعف المناعة الأخلاقيّة. أصغر بلدان أوروبا أكثرها تقدّماً. قد لا يكون حكّامها أنبياء لكنّ رقيّ شعوبها يغنيها عن الحكّام. نحن لا حكّام ولا شعب. مع ثالثة الأثافي، وزارة ثقافة أعلى منجزاتها منح الدروع ورعاية مهرجانات لا تحتاج إلى رعايتها وتعليق أوسمة على التوابيت، بينما أجيال اللبنانيين تجهل كلّ شيء عن تراث بلدها الأدبي والفكري والفنّي والهندسي ولم تسمع حتّى سماعاً بنهضة القرن التاسع عشر. وكتب المبدعين مفقودة، لا دور نشر تتحمّل مسؤوليّتها التاريخيّة ولا صحافة تُنبّه ولا دولة.
من أنسب ما يكون للتوفير على الخزينة جمع وزارات الثقافة والسياحة والبيئة في رزمة واحدة والاحتفال بإلغائها في ساحة الشهداء.

■ ■ ■


كيفما التفتنا، أصغينا، شاهدنا، دعوة إلى القرف. سنّة وشيعة، علويّون وسنّة، موارنة وموارنة. أمّا اليهود... على فكرة، مَن لا يزال يتذكّر إسرائيل؟ لم يعد يقف في وجهها أحد. تريدين يا إسرائيل أنظمة دينيّة مثلك؟ خذي أنظمة دينيّة. تريدين إبادة العرب بعضهم لبعض؟ خذي إبادات. تريدين قنوات عربيّة تسوّق للأفلام اليهوديّة المشوّهة للمسيحيّة والإسلام؟
خذي ما طاب لكِ. تريدين نشر «القيم اليهوديّة»؟ تريدين «التطبيع»؟ وماذا نحن (وغيرنا) نفعل غير التشبُّع من «قيمكم» ودعايتكم لأنفسكم والترويج لأتفه إنتاجكم على أساس أنّه ذروة العبقريّة، والتفرج على احتكار وسائل الإعلام وإخضاعها للتوجيهات اليهوديّة والصهيونيّة سواء السافرة المباشرة كما في الصحف الفرنسيّة وعلى رأسها «الموند»، أو المتلطّية بالماسونيّة والهيئات «الإنسانيّة»، ولا حاجة لتعدادها فهي ثمانون في المئة على الأقلّ من مجموع الصحافة والتلفزيون ودور النشر وشركات الإنتاج والتوزيع. وقد أغنتنا مقالة الزميل جان عزيز في عدد «الأخبار» ليوم الثلثاء الماضي عن الكلام على يهوديّة الحكومة الجديدة التي شكّلها فرنسوا هولاند.
عاشت إسرائيل! من النيل إلى الفرات! من المحيط إلى الخليج! من أوروبا إلى أميركا! حاربينا نرجوكِ، ربّما يتخربط حجر من أمبراطوريّتك الواسعة، عن غير قصد طبعاً، فالعرب أحرص منكِ عليك، كيف لا وباسم معاداتك حكموا ويحكمون، وانتفضوا وينتفضون، وتخلّفوا ويتخلّفون، وتعصّبوا قبائل وزواريب بعضهم ضدّ بعض، وسرق سرّاقوهم الخيرات ونهب نهّابوهم الشعوب، وباسم إحباط مخطّطاتك مكّنوا لها من النجاح، وباسم فضح مؤامراتك واستخباراتك ازدهر انتشار عملائك وجواسيسك وعملائهم وجواسيسهم في مطابخنا وغرف نومنا. صدّقينا لم نعد نعلّق الآمال إلّا عليكِ، فهلمّي خذينا حيث شئتِ، إلى الحرب؟ إلى الحربّ! إلى الفناء؟ إلى الفناء! مكسيموم ستتحاربين مع أهل حرب، أمّا نحن، أهل البؤس والتشرّد والكفر المقهور، فلا علاقة لنا بحروبكم أنتِ وحكّامنا الأشدّاء، نحن قرطة مجرّدين من السلاح، مجرّدين من الحرب، مجرّدين من الكهرباء والماء والانتماء، وكالعادة سنموت بالنيابة عنكم أنتم القادة عندما تقصفون، وتتطاير أشلاؤنا عندما تطيرون. وهكذا نستريح وتستريحون.
طبول الحرب.
النجدة يا إسرائيل!
الأنظمة والحكّام يستجيرون بحربك لاستعادة الزمام ونحن الأغبياء والأبرياء نستعطفكِ أن تبيدينا عن وجه الأرض.
أهذه أرض، هذه، يا عالم!؟

■ ■ ■


لم أختر.
لا ولادتي ولا حياتي.
ولا قلمي.
لم أختر أحداً، وجدتهم في مصائري دون قصد، دون عمد، دون قدرةٍ على الرفض ولا على القبول.
أجل، لا على الرفض ولا على القبول.
حالةٌ نباتيّة بلهاء مصعوقة، تتظاهر تظاهراً بأنّها تعيش ما تعيشه، ولكنّها في الحقيقة مروبصة، عمياء.
لم أعرف سوى إرادة الاستسلام.
للشاردة والواردة.
كنتُ أجد العلّة والغاية في ما بعد، بعد الاعتياد، مثل أيّ عشبةٍ تنمو عشوائيّاً، بلا معنى.
تُقهقهني نظريةُ حريّة الاختيار. لا شكّ أنّ هناك مَن يعتقد بصحّتها، ولا شكّ أنّها تبدو صحيحة لمَن يعتقد بصحّتها.
كلّ ما حصل لي لم يحصل معي. حصل لي لا معي. لم أكن شريكاً إلّا في بعض الألعاب، ولم أختر الألعاب.
اختارتني، اختاروني، كنتُ دائماً شيئاً.
لماذا أحبّ صوت الريح؟ لأنّ الريح قائدتي. أنا غبارٌ في الريح.
لا شعر ولا نثر: هباء.
لو لم يختر لي أبي اسمي لدعوتُ نفسي هباء.
لم أختر أن أعيش لهذه السنّ ولم أختر أن أموت حين أموت. ولم أختر ولن أختار أن أولد في هذه المنطقة من العالم. مبروكةٌ على الرسل والأنبياء أرضهم، شخصيّاً، إذا لا بدّ من الانوجاد، كنتُ أفضّل أن أولد في أرضٍ سماؤها فضاء لا سماء.
ظلمٌ أن يقال إنّنا نملك حريّة الاختيار.
والذين يتحكّمون في أقدارنا إعاشةً أو عشقاً أو قتلاً يعرفون أنّ هناك مَن يتحكّم فيهم وأنّهم مأمورون مثلنا ولم يختاروا غير التظاهر بأنّهم سادة.
هم مثلنا هباء.
يظهرون في الصور، يسيرون في المواكب، يتألّقون على المنابر والمسارح، لكنّهم لا يعرفون لماذا يفعلون ذلك.
والذي يعرف يُصْعَق.

■ ■ ■


في البداية كان يملأني السكوت. دهاليزُ الصمت المحشوّ بالهواجس، المثقوب الروح. كانت عينا الطفل ذاك عينَي مسكون، عينَي مرعوب مفتوحتين على أشباح.
ثم جاء الحكي. الألفاظ. وباءُ الكلمات. صرتُ مليئاً كالطبل بالكلمات. ولم أخترها بل اغتصبَتْني. متُّ من كلماتٍ كثيرة. لو كانت لي حريّة الاختيار لما متُّ من كلماتٍ كثيرة. عشتُ على كلمات. لو كانت لي حريّة الاختيار لاخترتُ مَرْكباً، درّاجة، سريراً، لاخترتُ بستاناً من الكرز والخوخ والعنب والجوز، لاخترتُ تيساً ونعجة، كلباً وكلبة، لعشتُ بالفاكهة والنبع، لهربتُ في الهواء من الكلمات.
أصبحت كلّ حركةٍ كلمة. أصبح الطعام كلمات والنساء كلمات وأصبحت المشاعر والأفكار كلمات.
لو كانت لي حريّة الاختيار لاخترتُ أن أكون عصفوراً. لاخترتُ أن أكون أيّلاً. لاخترتُ أن أكون حوتاً. لاخترتُ أن أكون ولداً شجاعاً ضاحكاً وأظلّ ولداً، ولداً غير يتيم، ولداً يُحبّه مَن يراه، يحبّه ويحتضنه، يحبّه ولا يعلّمه، ولا يخيفه، ولا يجبره أن يكبر، ولا يستدرجه حتّى يختار.
لو كانت لي حريّة الاختيار لاخترتُ أن أكون حُرّاً بلا مسؤوليّة.
لم أختر. كنتُ معروضاً في واجهةٍ مُصمَّمة لهُواةِ البحث عن عديمي الإرادة.
هباء.
ما حصل حصل من جهتي صدفة ومن الجهة الأخرى بين الصدفة والصيد.
والهباء أيضاً. مثلي مثلهم، لا أحد يختار.

■ ■ ■


خلّصونا.
أريحونا.
نموت موتاً ولا هذه الحياة.
الدعوة مفتوحة.