وفاة والده، نقلته من أزقة بغداد الى قضاء الصويرة (محافظة واسط) طفلاً رضيعاً لا يتخطّى الأسابيع، لتبدأ حياة من المعاناة وتحاصر طفولته بالفقر والتعاسة «نعم أتذكر تلك الأيّام بألم» يستعيد خالد السلطاني فترة يُتمه بنبرة خافتة. في مدرسة قريبة من القرية التي كان يسكنها، لفتت رسوم الصبي معلّميه ممّن كانوا ينتظرون تخطيطاته التي كان يرسم فيها أرجلهم كأرجل البط؛ لأنّه لم يكن يتقنها. مع نضجه أكثر، أدرك أنّ الرسّام الموهوب هو الذي يعرف كيف يرسم أطراف الإنسان.
آخر العنقود في العائلة لم يتفق مع السائد آنذاك بالذهاب الى «دار المعلمين» عقب إكمال «الثالث متوسط» كي يتوظّف ويتسلّم راتباً، بل أكمل المرحلة الثانوية مقاوماً ضغط الأقارب وفقره المدقع. هذا الإصرار العفوي كان يعني الانتقال الى مدينة الكوت. هناك حدثت النقلة الثقافيّة مع تعرّفه إلى المكتبة العامّة والسينما، ومنهما كوّن زاده المعرفيّ وبدأ يطلّ على عوالم أرحب في كتب وأفلام خمسينيات القرن الماضي. واصل الدراسة، حتّى حصوله على بعثة الى موسكو عام 1959.

الانتقال للعيش في موسكو كان يعني الاطلاع على المعارف العالميّة والاختلاط بالآخر مع اكتساب صداقات بمثقفين روس وعراقيّين وعرب، من بينهم غائب طعمة فرمان، حسب الشيخ جعفر، أحمد ماضي، معين بسيسو، جلال الماشطة، ميخائيل نعيمة، ومحمود أمين العالم... هذه العلاقات الجديدة أبعدته عن تفاصيل الحياة الاجتماعيّة للأهل وصلات النسب، لكنّ المصادفة شاءت أن يلتقي السلطاني أحد أقربائه في مقهى في جوار الكرملن، فيسأله القريب: «من هو شيخ عشيرتكم؟» بينما كان السلطاني قد نسي هذه العوالم وانتقل الى بيئة تختلف كليّاً عن تلك التي نشأ فيها.
انخرط في مدرسة العمارة في موسكو التي أسّسها معماريون «بنيويّون» غيّروا المفاهيم المعماريّة وأوجدوا نهجاً خاصّاً بهم في عمارة الحداثة، التي ظلّت مثار اهتمام وبحث في شتّى أنحاء العالم. زها حديد تعدّ نفسها أحد تلامذة هذه المدرسة، وتشير دوماً الى أنّها تنطلق من النقطة التي وصل إليها البنيويون في العشرينيات من القرن الماضي، لكن توجّهه نحو دراسة هذا الفنّ، لم يكن مخططاً له مسبقاً، بل جاء بعد حصوله على درجات عالية مكّنته من الظفر بمنحة دراسيّة. أما قيمة العمارة وجمالياتها، فاكتشفهما خلال الدراسة التي حدّدت مسارات حياته واهتماماته المهنيّة والشخصيّة. لقاؤه بعدد من المنظّرين في مجال تخصّصه أفاده بعد سنوات في تأليف كتابه «مئة عام من عمارة الحداثة» (دار المدى ــ 2009). وأنت تتحدّث إليه تتلمّس ثقافة موسوعيّة لا تنحصر في مجاله الأكاديمي. مبعث ذلك تردّد الكثير من الأدباء والكتّاب العرب على موسكو، وتعرّفه إليهم واطلاعه على نتاجاتهم آنذاك. سبعة أعوام كانت كافية للحصول على الماجستير ومن ثمّ العودة الى بغداد عام 1967، ليجند ضابطاً في الخدمة الاحتياط.
شهد المعماريّ انقلاب تموز 1968: «كان حدثاً غريباً وقتها». لكن لحسن حظّه أنّه جاءته بعثة جديدة لدراسة الدكتوراه في موسكو، فأبعدته عن متابعة المشهد الدموي في بغداد. بعدها، أنهى دراسته وعاد الى العراق أُستاذاً في قسم العمارة في كلية الهندسة في «جامعة بغداد» ليكون شباط (فبراير) العام 1974 شهر تحقّق رغبته في مزاولة المهنة في مجتمع النشأة قبل أن يغادر العراق إلى الأردن عام 1996 ومنها إلى الدانمرك حيث يقيم منذ عام 2002.
ميله إلى نشر الثقافة المعماريّة جعله يكرّس جهده في الكتابة والترويج لما تلقاه على حساب الانشغال بتصميم مبانٍ وصروح هنا وهناك. «هذا الطموح هو الذي دفعني إلى أن أكون أستاذاً لأنّها الوسيلة الأمثل لتحقيق مشروعي الثقافيّ في المجتمع»، يعلّل سبب اهتمامه بكتابة البحوث وتأليف الكتب عن العمارة وحداثتها. يتذكّر بفرح انّه أسهم في تخريج 2000 مهندس معماريّ في العراق، لكنّ الغصّة تلاحقه اليوم وهو يجدهم قد توزّعوا في بلدان شتّى من العالم. «كان ممكناً جدّاً أن يكونوا ركيزة للنهضة المعماريّة في البلد، بينما هم اليوم في مصير يشوبه الغموض».
بين التواصل مع طلبته حتّى هذه اللحظة، والاستمرار في نشر الكتب والمؤلفات، لم يتوقف عن محاولة اختراق أسوار الجامعة ككيان أكاديمي نخبوي، بهدف تحويل الدرس الأكاديمي الى ثقافة مجتمعيّة عن العمارة ونتاجات مبدعيها. العمارة الحداثيّة، ومنجز المعماريّين العراقيّين، وقبول الآخر في هذا المجال، ومتابعة ما يدور في الورشة العالميّة، كلّها قضايا تناولها في «تناص معماريّ» (دار المدى ــ 2007)، و«عمارة ومعماريون» (دار الشؤون الثقافيّة ــ 2009). يذكّرنا السلطاني بأنّه صمم مبنى دائرة كهرباء الناصرية (1979) و«جامعة آل البيت» في الأردن. في المشروع الأخير، حاول إدخال كلّ العناصر الملازمة للنشاط الأكاديمي، وهنا سيكون لوكوربوزييه، ولويس كان، رفعت الجادرجي، أمثلته المحبّبة عن المعماريّ الذي يدحض التناقض المزعوم بين وظيفتي المنظّر والمهنيّ. أهمّ ما حاولت كتاباته أن تلفت الانتباه إليه، هو تفرّد المعماريّ العراقيّ في تطويع شروط البيئة والمكان في المنتج الحداثي. هو يفهم العمارة على أنّها نتاج التقنية والفنّ، بين ما هو مفهوم للجميع ويحمل الصبغة العالميّة، وما يضفي على التقنية تفرّداً وخصوصية في المكان، لتكون تقبّلاً للآخر مرتهناً بالبيئة ودرجة تفاعل المعنيين مع المنتج الجديد. غير أنّه ينتقد غياب المعماريّين العراقيّين عن المشهد العام وتجاهلهم لنشر الثقافة المعماريّة في المجتمع «الشاعر الشعبيّ والمغني من الدرجة العاشرة أشهر ربّما من أفضل المعماريّين العراقيّين بسبب توافر مؤسّسات تسوّق هذا النتاج». ما يحزنه اليوم في مرأى بغداد التي يحفظ تضاريسها وأبنيتها عن ظهر قلب، ذلك الذوق المتدني السائد الذي لا يتحمّل مسؤوليته المعماريون فقط، بل أصحاب القرار أيضاً. يحضر في ذهنه رأي لرفعت الجادرجي مفاده أنّ «المنتج المعماري متكوّن من قسمين، الأوّل يخصّ خلق العمارة، والثاني هو المجتمع الذي يستطيع أن يحافظ على المنتج ويصونه، وبغير ذلك، نفقد الذاكرة وتراكم الخبرة التي تدفعنا إلى السير إلى الأمام وإلا نبدأ من الصفر
دائماً».
بينما نتبادل أطراف الحديث في كلية الهندسة في «جامعة بغداد» التي عاد إليها هذا العام، يلقي نظرة فاحصة على طلبة قسم العمارة. يقول إنّهم «أذكياء يحبّون التجديد واكتساب المعرفة إلا أنّهم يعيشون واقعاً أليماً وقاسياً، فلا يرون تجلّيات العمارة الحداثيّة، وبالتالي هم معزولون عمّا يدور في الورشة المعماريّة العالميّة». يرى خالد السلطاني في عودة الطبقة الوسطى وحضورها في المجتمع سبيلاً لايقاف كل هذا الخراب المعماريّ والنفسيّ والبيئي، فما حصل يعدّه نتيجة منطقيّة لاقصاء هذه الطبقة التي هربت إلى الخارج «رغم أنّها تتوق اليوم للعودة الى الديار».




5 تواريخ

1941
الولادة في الصويرة التابعة إداريّاً لمحافظة واسط (جنوب شرق بغداد)

1959
الحصول على بعثة دراسيّة إلى موسكو لدراسة الهندسة المعماريّة في «معهد موسكو للعمارة»

1974
تعيينه أستاذاً في كلية الهندسة في «جامعة بغداد». وفي عام 1996 يغادر العراق إلى الأردن حيث يعيّن أستاذاً في «جامعة آل البيت»

2000
صدور كتابه «رؤى معماريّة» عن «المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر»

2012
العودة أستاذاً للعمارة في كلية الهندسة
في «جامعة بغداد»