(إلى فيروز في عيدها)
في غمرةِ الكفر، يُمَسُّكَ سحرُ قدّاس الميلاد لبيتهوفن أو جنّاز موزار المخيف، عرسُ الجنائز.
أنت المدّعي ماديّةً محصّنة، تجدكَ أمام لوحة لرافائيل فتُذْهَل، أو في رحاب «الشابيل سكستين» فتخطفك إلهيّات مايكل أنجلو الوثنيّة كأنّها الحياة وأنت لم تكن فيها.
جاذبيّةُ الجمال دينٌ. سحْر الخَلْق، الفنّي والشعري أو الحيّ الدافق على اللحظة، هو الله. أعني، هو ما يُبرّر أن نخطو الخطوة التالية وأن لا نموت قبل الصباح.
كلّ تَقدُّم يُوهّج هذه النعمة ويحميها ويُطلق طيور أقفاصها ويوسّع لها الأماكن، هو التقدّم «الإنساني» وليس غيره. كلّ عملٍ يُعزّز سحر الحريّة وحريّة السحر هو معجزة.
عالمٌ لا يبخل بأملٍ كهذا هو محتملٌ وعزيز، رغم تلوّث لغاته وانحطاط أخلاقه وتلبّد الغيوم فوق أنفاسه وانفجار حروبه.

■ ■ ■


قريباً منّا، على هوانا، رَدّني سحر الفنّ على أعقابي بلا صراع بل في ما هو أشبه بوَهْب الذات.
لا أعني الاستسلام العادي، حين يستميلك إغراء فتعطيه مفاتيحك. أعني الاستسلام الذي تخون معه بعض مبادئك.
قامت حياتي الأولى على التمرّد والرفض. وعندما كتبتُ في مطلع السّتينات «كلّما عزفوا النشيد الوطني سنبقى جالسين» طبّقتُها ومضيت إلى أَبَرْبَر منها. وعندما كتبتُ «سنمشي فوق جثّة هذا التراث» كنتُ أصف حالةً باشرتُها قبل ذلك بعفوية دون قَصْد الاستفزاز الذي لم يحصل إلّا بعد ردود الفعل ضدّ تلك العفويّة.
لم يكن في طبعي ولا في كتاباتي ما يوحي بإمكان الالتقاء بيني وبين فيروز والأخوين رحباني. وكان تَعَجُّب أدونيس ويوسف الخال بين جماعة مجلّة «شعر» هو الأشدّ، وحار أدونيس أين يجد الرابط بين فنّ يمجّد الوطن ويكرّس الأخلاق التقليديّة ويغنّي للعسكر والعائلة إلخ... وشعرٍ راجم رجيم رائده تدمير كلّ شيء.
كانت أغانيهما قد بدأت تتسلّل إلى ذاكرتي بسهولة أوّلاً، ثم بتغلغلٍ ناعم في طيّات الرشد الباطن، حيث اتّضح أنّه كان لها غُرَفٌ ومراعٍ تنتظرها بشوق. وكان صوت فيروز هو أعمق الأركان في حصان طروادة.
تخاصمتُ مع العديد من الأدباء والفنّانين الأحياء منهم والأموات وغالباً ظللتُ أنا أنا وهم هم. أمّا مع فيروز والأخوين رحباني فقد جاءت أفكارهم وأذواقهم ولغاتهم التي كنت أخالها عدوّتي، تحتلّني واصلةً على موج البناء المتكامل من اللحن إلى الكلمة إلى الصوت.
أليست هذه أخطر حِيَل الفنّ؟ أَن تحبّه مع أنّ أفكاره عكس أفكارك ولغته عكس لغتك وطباعه عكس طباعك؟
كنتُ أكره الوطن والأوطان فغدوتُ أشرب مع «لبنان الأخضر» و«فخر الدين» نخب الوطن. وأكره قيم التصالح والتسوية فصرتُ أموت خوفاً من أن تنتهي المسرحيّة، على المسرح وفي الحياة، وأهلها متخاصمون. وكنت أكـــره «السعادة التقليديّة» فغدوتُ أحبّها، وأكره الوعظ فصرتُ أتحمّله، وأكره الفضيلة الجالسة على عرشها منذ أوّل أغنية حتى آخر كلمة فأصبحتُ أردّد وراءهم شعاراتهم وأنا أترنّح طرباً. وكنت أهزأ بتقسيمهم العالم بين خير سطحي وشرّ سطحي فبتُّ أميل إلى الاعتقاد بأنّ تصنيفهما التبسيطيّ أصدقُ وأحلى من سائر الاجتهادات الفلسفيّة.
بعدما فرحتُ بهذه المعموديّة التطهيريّة عدتُ إلى طبيعتي الشرّيرة، فنشأتْ بيني وبين نفسي أزمة حسمتُها بالتسوية الآتية: فلأقبلْ أنّه يسكنني شيطان بقربه ملاك.


■ ■ ■


استمرّ هذا الوضع حقبةً طويلة ولم أفقد معه توازني. ربّما لأنّي طبيعي في هذا الانقسام. والحقيقة أنّ سحر الفنّ يسخر من أفكارنا الجاهزة وتصنيفاتنا كما يستخفّ بتصنيفات الآخرين لنا. لقد استطاعت فيروز والأخوان رحباني أن يُقبّلوني (كما قبّلوا غيري) أناشيدهم الوطنيّة وحماسيّاتهم وتبشيراتهم الأخلاقيّة والعاطفيّة لا لأنّها فكرٌ أكاديمي أو أيديولوجيا خلاصيّة ولا لأنّهم ماهرون في التوليف والاقتباس ولا لأنّهم ظرفاء وأذكياء يتقنون سرّ الاستمالة، بل لأنّهم أنتجوا فنّاً مثّلث الفتنة يواجهك كما تواجهك الكائنات الخرافيّة التي لا تجد نفسك أمامها في حوارٍ أو خطاب بل في حالٍ ارتداديّة إلى نواة الذات، تعود منها وقد تولّاكَ الشوق إلى حمايةِ هذه الخرافة التي تَمَسُّكَ وإلى الاستسلام لها حيث تريد.

■ ■ ■


... ومضى الزمان... ورحتُ أضحك ضحكةً صفراء وأنا أَتقلَّب على أصداء حماساتي، يغمرني موجُ فوات الأوان. وراح شيطاني يقول: «يا لتلك الخدَع! خدعة السحر، خدعة الفنّ، خدعة الانكسار، خدعة الانصهار، خدعة المجهول.
قناعٌ فوق قناع، خداعٌ فوق خداع».
ويجيبه الملاك زميله: «وماذا لو لم يكن انخداعاً؟
لو كان الأمر انخداعاً، لانتهت النزهةُ في الصباح. ولكن مَن يرضى بالاستفاقة من الخَدَر؟ مُسَكّن؟ ومَن يحتاج إلى أكثر من مُسّكّن؟». ويستكين الشيطان قائلاً: «مفرحٌ ومؤلم معاً أن نجد بين الحين والآخر ما يعطينا، في هذا المعترك المزدحم، إشارة إلى أنّ بين الجوانح نجوماً تؤنس لياليها وفوق الدياجير شموساً لا تخون موعدها».
ويتابع الشيطان: «ولكن هل مَن يسحروننا هم موضوعيّاً كما يبدون لنا أم أنّهم ما نحتاجه، يحاكون حاجتنا ويدغدغونها، فتضفي عليهم مخيّلاتنا الجامحة وعواطفنا الجائعة ما يجعلهم في عيوننا أساطير؟ وقد يقال: سيّان. لكنّه كلّ الفرق بين الأصل والصورة».
ويجيبه الملاك: «دع عنك المجادلة. الصورة هي الأصل وليس الأصل هو الأصل. مأساة الإنسان في أصله وخلاصُه في صورته».

■ ■ ■


لطالما أُخذتْ عليّ المبالغةُ في هذا الشأن. وهي حقّاً مبالغة. لا شغف بلا مبالغة. لا إعجاب باعتدال. والكتابة خصوصاً، تلزمها حماسة فوق وعي المراقبة المحدود، وإنْ لم تتجاوزني كتابتي فلا معنى لها.
أخطر أنواع الشغف هو الشَغَف بالفنّ. إنّه يُعيد اكتشافنا لنفسنا كما أنّنا نظلّ نعاود اكتشافه. يُعيد خَلْقنا ونعيد خَلْقه. ولكي يتم هذا لا بدّ من تَواعُد مصيريّ بيننا وبينه. ولكي يحصل هذا التواعُد لا بدّ من تلاقي الضرورة والحاجة، من تجمُّع الغيوم، من تراب المَنْشأ ومن أمطار الموسم. ومع هذا ورغم هذا، لا يكتمل اللقاء. فعند محلٍّ ما تفترق العناصر. وهكذا يعود كلٌّ إلى وطنه، كلٌّ إلى مُغْتَرَبِه. ولا بدّ من هذه الوحشة لتتجدّد دهشة العودة.

■ ■ ■


المسيرة الرحبانيّة الفيروزيّة لم تكن حلماً فحسب بل تجلّيات الذاكرة.
وذلك الصوت العابر عنقاً لا ينتهي، عنقاً يمتدّ حتّى الوجه، حتّى الرأس،
وذلك الإيقاع الذي عانق الصوت بجذوره وفروعه، فمضى يكتشفه طيّة طيّة، ويجلوه ذهباً وورداً وماساً، لغزاً وانقشاعاً، منحدرات ومرتفعات، وأحياناً يبارزه في السحر، وفي محاولة الإقامة مثله في الهجس، ودوماً يتراجع، سعيداً بهزيمةٍ هو كلّ ما يرجوه،
وتلك العمارة التي تداعب لاوعي القرية الهانئة فينا، تنعش روح الطفل والمراهق كما ينعش هواء الأعالي أعماق الوادي،
ذلك كلّه، وغيره وغيره، لم يكن شيطاني يمتلك من الشجاعة ما يكفي لصدّه، فظللتُ بكامل حريّتي مرصوداً على جسر القمر.

■ ■ ■


شيءٌ واحدٌ أجمل من الموسيقى، هو عندما تلتقي العناصر الثلاثة في بوتقةٍ واحدة: اللحن والكلمة والصوت. فائضُ الطاقة هذا، طاقة خَلْب اللبّ، أعطيتْ موهبته للثلاثي فيروز وعاصي ومنصور،
في بداهةٍ تخترق أكثف ظلمة، وفي سخاءٍ حَسَدَتْهُم عليه الطبيعة.
سِحْر الخَلْق صنو الإيمان المُعْجِز، بل هو أعظم من الإيمان. سِحْر الخَلْق يبرّر الخليقة، وفي ظلال جمالاته ارتفعت خيالات الآلهة التي سَحَق بها الإنسانُ نفسه ليضيف إلى فنائه معنى البقاء.