لا يزال محمد ساري متمسكاً بقناعاته اليسارية، يتحمّل وزر خياراته ويدافع عنها. يكتب منذ ثلاثة عقود، باللغتين العربية والفرنسية، محاولاً الابتعاد عن تيار «رواية الخطابات المباشرة»، وينتظر صدور رواياته الجديدة «المطر الذهبي» خلال الربيع المقبل، عن منشورات «البرزخ». نقل هذا الأديب والأكاديمي والمترجم الجزائري إلى العربيّة، أعمال كتاب فرنكفونيين كثر، أمثال أنور بن مالك، ومليكة مقدّم، ورشيد بوجدرة، ومايسة باي، وياسمينة خضرا، وسليم باشي... كما اختلف، طويلاً، مع الطاهر وطار في موضوع علاقة الأدب بالسياسة.يتمتع ساري بكاريزما تجعله محبوباً في الأوساط الأدبية الجزائرية. يرفض الانغلاق في رقعة الحسابات الشخصية الضيّقة. يؤمن بأن الرواية «حكاية قبل أن تكون خطاباً سياسياً». «منذ البدايات، ورغم أنّني كنت أعيش قناعاتي اليسارية بكلّ ثقلها، إلا أنني ابتعدت في الكتابة عن الخطاب الإيديولوجي الفجّ». في المقابل، اختار التركيز على البحث التاريخي، ورسم المسارات المتشعبة لتطور حركة الشخصيات، إضافةً إلى استثمار الثقافة الشعبية الشفوية.
في السنوات الأولى لاستقلال الجزائر، لم يكن محمد الطفل حينها، يعتقد أن لذّة المطالعة ستقوده إلى «محنة الكتابة». لم يكن يعتقد أن لذة الغوص في عوالم كتاب «أليس في بلاد العجائب»، واكتشاف التشويق على طريقة القصص المصوّرة ستؤلّف محطة بارزة في تكوين شخصيّته بما هو أديب. في تلك السنوت، كان يقتنص «الحرب والسلم» لليون تولستوي، وغيرها من كلاسيكيات الأدب العالمي من أرصفة الجزائر العاصمة. «ما زلت أحنّ إلى تلك الروايات، وأتمنى لو أجد وقتاً لإعادة قراءتها. أتساءل إذا كنت سأجد المتعة نفسها. أحياناً أفضّل عدم إفساد تلك الذكريات الجميلة، لأنّ القراءة الثانية قد تكون فاترة، بحكم تراكم التجربة».
حين بدأ ساري خوض غمار الكتابة، كتب بالفرنسية أولاً، موقعاً قصصاً قصيرة نشرت في جرائد ومجلات مختلفة. لم يكتب بالعربية إلا مطلع السبعينيات، حين دخلت البلاد مرحلة التعريب.«تعرّبت مع روايات نجيب محفوظ، ومسرحيات توفيق الحكيم، ونصوص طه حسين»، يقول. المزاوجة بين اللغتين سهَّلت عليه لاحقاً، الانتقال إلى الترجمة، كما فتحت أمامه نوافذ الاطلاع على تجارب عديدة. وظف كلّ ذلك في أعماله الروائية، منذ باكورته «على جبال الظهرة» (1982) التي تأخر نشرها حتى عام 1988(عن المؤسسة الوطنية للكتاب). في هذه الرواية، استعاد الحقبة الكولونيالية، مستلهماً القصص والأساطير الشفوية، في أسلوب يحاكي «الواقعيّة السّحرية». أنجز لاحقاً رواية «السّعير» (1986) التي يصفها أحد الصّحافيين حينها بـ«الرواية اللقيطة»، نظراً إلى جرأتها في التّعرض للمحرمات، وابتعادها عن لغة «المناشير السياسية» المصاحبة لمجمل النتاج الروائي الجزائري، خلال فترة حكم الحزب الواحد، واتساع حمى التغني بقيم الاشتراكية.
مطلع التسعينيات، ومع دخول الجزائر نفق الأزمة السياسية والأمنيّة العنيفة، كان اسم محمد ساري قد صار مكرساً في الواجهة الأدبية. فضّل حينها معايشة المحنة من الداخل على الهجرة. لعب دور الشاهد على المخاض، موقعاً رواية «البطاقة السحرية» (1997)، فـ«المتاهة» (2000) بالفرنسية، ثمّ رواية «الورم» (2002). «ينبغي أن نعرف أن حيوية المجتمع، والصراعات التي يعيشها، غالباً ما تكون محفزاًً كبيراً على الكتابة. لا ينبغي أن ننسى أنّ أوّل ملحمة في التاريخ، أي «إلياذة» هوميروس، كانت تحكي عن الحرب». حملت آخر إصدارات محمد ساري الروائية عنوان «الغيث» (البرزخ ـــــ 2007)، وفيها تطغى لغة الحكايات الشعبية الغرائبية المستمدة من حياة الناس البسطاء.
بالموازاة مع الكتابة الأدبية، خاض ساري تكويناً أكاديمياً، جعل منه أصغر أستاذ جامعي في الجزائر عام 1983. عاد من «جامعة السوربون» محملاً بدبلوم دراسات معمقة (1981)، وهو لا يزال شاباً في العشرينيات، قبل أن يصير أستاذاً محاضراً في «جامعة الجزائر المركزية» في تخصص السيميولوجيا، والنقد الحديث. خلال مسيرته الأكاديميّة، وقّع دراسات وكتباً نقدية عديدة، منها «البحث عن النقد الأدبي الجديد» (1984)، و«محنة الكتابة» (2007)...
بحكم اهتماماته النقديّة، يبقى ساري متابعاً عن كثب لتطورات الرواية الجزائرية. «ما ألاحظه أنّ أغلبية النصوص تجمع بين خطابات أدبية متنوّعة، تتمحور حول الذات والسيرة الذاتية أو المحيط المهني القريب. أضف إلى ذلك التسرع في النشر قبل اكتمال العمل ونضجه». برأيه، أغلب الروائيين ينشرون أوّل وهج الكتابة، من دون الصبر على التنقيح، وإعادة القراءة. «عندما تقرأ أن غوستاف فلوبير أعاد كتابة بعض فصول «مدام بوفاري» أكثر من عشرين مرة، فلا تعجب لماذا أحرزت هذه الرواية مكانةً مرموقة بين روائع الروايات العالمية. أصبحت الرواية عند الكثير من الكتّاب عبارة عن مجرّد قدْر، يضعون في داخله كل ما خطر في بالهم من مواقف حياتية وأفكار وخواطر...»
في أيامه العاديّة، يمضي محمد ساري وقته وهو يقرأ، ويكتب، ويُدرّس الأدب... في بعض الأحيان، يردّ على الأحكام «الذاتية والأنانية» التي يطلقها بعضهم بحقّه، كما فعل ياسمينة خضرا قبل أسابيع حين اتهم «المترجمين الجزائريين بتشويه رواياته». «أن يقول ياسمينة خضرا إن ترجمة رواياته إلى العربية لم ترضه، فهذا من حقّه، ولا يضرّ أبداً بالترجمة. ذلك أنّ الترجمة خيانة للأصل دائماً. مع ذلك، يبقى الجزائريون عموماً متفوقين في الحط من شأن عمل مواطنيهم. وياسمينة خضرا لا يشذ عن القاعدة. كلّ واحد من المثقفين الجزائريين يريد الاستيلاء على عرش الأدب، وينصّب نفسه ملكاً وحيداً أبد الدّهر».



5 تواريخ

1958
الولادة في شرشال
(90 كيلومتراً غربي الجزائر العاصمة)

1983
أصغر أستاذ جامعي في الجزائر، بدأ تدريس السيميولوجيا والنقد الحديث في «جامعة الجزائر المركزيّة»

1986
أصدر رواية «السّعير» التي مثّلت محطة جريئة في نقد المحرّمات

2007
عاد إلى لغة الحكايات الشعبيّة في رواية «الغيث» (منشورات البرزخ)

2011
تتهيّأ «البرزخ» لإصدار روايته «المطر الذهبي» بالفرنسية