في رصيد صافي بوتلة أكثر من ثلاثين عاماً من العمل الموسيقي، بين تلحين وتأليف وتوزيع وإدارة حفلات وجولات فنية... عمل مع أشهر الفنانين في الوطن العربي والجزائر، وأثبت نفسه أحد أهمّ مجددي موسيقى الراي. يقارنه بعضهم بالملحّن الفرنسي المعروف جان ميشال جار، وقد كانت له مساهمة كبيرة في تطوير الموسيقى الترقية (نسبة إلى قبائل «الطوارق») القادمة من أعماق الصحراء. مسيرة طويلة لم تنجح في إتعابه. تفاصيل وجهه تبعث على الهدوء، ولا تكاد ملامحه تشي بأنّ الرجل الجالس أمامنا قد تجاوز العقد السادس من عمره. نسأله عن حياته، فيختار الحديث في الفن لإيمانه بأنّه «الوسيط الوحيد الذي من شأنه الحدّ من الخلافات».لعب الحظّ دوراً في صقل موهبة بوتلة وتطويرها. ولد في مدينة بيرماسنز الألمانية، المتاخمة للحدود الفرنسية. نشأ في كنف عائلة تهتم بالموسيقى الكلاسيكية، ونال منذ طفولته نصيباً من السفر واكتشاف العالم. «في الثانية عشرة، شرعت في اللعب على الغيتار»، يخبرنا صافي الذي تمرّس لاحقاً في العزف على هذه الآلة، وعلى آلات أخرى. تابع درساته الثانوية والموسيقية بين الجزائر وباريس، قبل أن يحصل على منحة من وزارة التعليم العالي في الجزائر، للدّراسة في «معهد بيركلي للموسيقى» في مدينة بوسطن الأميركية. هذا الصرح أحد أقدم المعاهد الخاصة بتدريس الموسيقى وأهمّها، وكان ابن التاسعة عشرة حينها أول موسيقي عربي يلتحق به. «كانت خطوة الدراسة في الولايات المتحدة ضرورية. سنحت لي تحديد ماذا أريد أن أفعل».
تخرج في عام 1979، وعاد إلى الجزائر، ليقيم حفلات الجاز، ويشرف على تدريس الموسيقى، وتلحين أعمال تلفزيونية وإذاعية. وفي عام 1982، رزق بابنته صوفيا، وهي اليوم واحدة من أشهر راقصات الهيب هوب في العالم، ترافق نجمة البوب الأميركية مادونا في جولاتها العالمية، وتعرّج على حفلات ماريا كاري، وريهانا. يتابع بوتلة مسيرة ابنته الفنية عن كثب. «أنا فخور جداً بها، وبما حققته حتى الآن، رغم أنني كنت متخوفاً في البداية من مشقة الخيار والطريق، خصوصاً أنّها فضلت العمل في الولايات المتحدة، حيث من الصعب أن يفرض الفنان نفسه، لكنها نجحت في النهاية».
حين كان في سنّ ابنته، بدأ اسمه يبرز في الجزائر. المحطة المفصلية في انطلاقته، كانت إشرافه عام 1984 على عرض فني كبير بعنوان «حركة موسيقية من أجل فكر عالمي»، لمناسبة مرور ثلاثين سنة على انطلاق ثورة التحرير. شاركت في الحفلة جوقة من 170 مغنياً، وثلاث فرق فلكلورية صحراوية. «كنا في تلك الفترة نرغب في تقديم أفضل ما عندنا. ونحلم في بلوغ العالمية».
انطلاقته الحقيقية نحو العالمية لم تتأخر. في عام 1988، لحّن ألبوم «الكوشي» Kutché. كان ذلك تعاونه الأول والوحيد مع الشاب خالد، وكان أن سبّب لبوتلة سيلاً من انتقادات شيوخ الراي الذين اتهموه بتشويه إرث الموسيقى الوهرانية القديمة. «تفهمت حينها قلق الشيوخ، وغيرتهم على الراي الأصيل. لكنّهم غيروا رأيهم لاحقاً، بعد نجاح الألبوم الذي جمع بين موسيقى أصيلة وأخرى معاصرة». عمل بوتلة على إنجاز هذه الأسطوانة أربعة أشهر كاملة من دون انقطاع، ورأت صحيفة «لوموند» الفرنسية أن الألبوم واحد من أشهر ألبومات القرن العشرين، إذ تضمن بعض أشهر أغاني الشاب خالد، منها «هانا... هانا»، و«شاب راسي»، و«الشابة» التي لقيت رواجاً واسعاً مطلع التسعينيات، خصوصاً بعد تصويرها على طريقة الفيديو كليب.
عاد صافي بوتلة إلى الواجهة منفرداً، مع إصدار ألبوم «مجنون» (1992)، ويتضمّن معزوفات موسيقية، تطغى عليها مسحة الجاز، وتجمع بين حساسيات مختلفة من الشرق والغرب، بين المحلي والعالمي، منها «جنوب»، و«رحالة»، و«خموس عليك»، و«شرق». لكنّ أحلام الفنان الجزائري بدأت تضمر مع دخول البلاد مطلع التسعينيات في دوامة العنف. استغلّ فترة الاضطرابات الداخلية للقيام بجولات فنية عالمية، بين الأعوام 1992 و1998، وشملت رحلاته أوروبا وأميركا. كذلك ألّف في تلك المرحلة الموسيقى التصويرية لأعمال سينمائية مهمة، منها فيلما رشيد بوشارب «شاب» و«غبار الحياة»، وفيلم «سلاماً ابن العم» لمرزاق علواش والشريط الوثائقي المثير للجدل «الخريف... أكتوبر في الجزائر» لمالك لخضر حامينا، الممنوع حتى اليوم في بلاده بسبب جرأته في التّطرق إلى الأحداث الدموية في الجزائر في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1988...
حين بدأت الحياة تعود إلى مجراها في بلد المليون ونصف المليون شهيد، قدّم بوتلة صيف 2001 عرض «المنبع» الضخم في ملعب «5 جويليه الأولمبي» في الجزائر العاصمة، لمناسبة افتتاح فعاليات المهرجان العالمي للشباب. عرض يحكي مختلف مراحل تاريخ الجزائر، مع التركيز على لوحات كوريغرافية من أداء فرق «ترقية». لم يملّ التلفزيون، بمحطتيه الأرضية والفضائيّة، بثّ هذا العرض طوال العام.
يرتكز عمل صافي بوتلة الفني على محاولة التجديد والمزج بين الموروثات والسّعي إلى تحديثها. خصائص راهن عليها في عرض «زربوط» (2007)، في مسرح الهواء الطلق الذي أنجزه لمناسبة مرور 30 عاماً على بدء مسيرته الفنية. إلى جانب هذا العرض، واصل صاحب «بعد غد» العمل في تنشيط الحفلات، والقيام بجولات في الجزائر وخارجها، كانت أخيرتها صيف 2009. ساهم بوتلة في توزيع أغان لفرق معروفة وتلحينها، منها «قناوة ديفيزيون»، وأمل وهبي، ونوال الزغبي... الموسيقي العتيق غير راض على واقع الموسيقى الجزائرية: «أرى أنّ هنالك أسماء وكفاءات لكنّها تبقى قليلة. والمؤسف في بلادنا أننا لا نمتلك قاعات تستوعب رغبة الشباب في التعبير عن نفسه من خلال الموسيقى. لا بد في الوقت الراهن من التفكير في تأسيس بنية تحتية حقيقية، تحتضن هذه المواهب».



5 تواريخ

1950
الولادة في مدينة بيرماسنز الألمانية

1979
تّخرج في «معهد بركلي للموسيقى» في مدينة بوسطن الأميركية

1988
لحّن ألبوم Kutché للشاب خالد، وبعدها بأربع سنوات أصدر «مجنون» أول ألبوماته المنفردة

2007
عرض «زربوط» (2007) احتفالاً بمرور 30 عاماً على انطلاقته الفنية

2011
يعمل حاليّاً على إعادة توزيع أغاني فرقة «ناس الغيوان» في إطار الدورة المقبلة من «مهرجان موازين» هذا الصيف، في مدينة الرباط المغربيّة