سنرجع يوماً
في حومةِ أخبارنا التي تُعمينا بثّت قناة «الجزيرة» سلسلة وثائق سريّة عن المفاوضات الفلسطينيّة ـــــ الإسرائيليّة أكثر ما ينبغي أن تخيف، بعد اللاجئين الفلسطينيّين، هم اللبنانيّون.
إذا صحّت هذه الوثائق فإن أكبر رقم طالبت به السلطة الفلسطينيّة الجانب الإسرائيلي، على صعيد العودة: 15 ألف لاجئ سنويّاً ولفترة عشر سنين قابلة للتمديد «بموافقة الطرفين»... وبعلم جميع المسؤولين العرب.

هناك زهاء ستّة ملايين فلسطيني في الشتات. ويا ليته مجرّد شتات ففي هذا أحياناً بعض الرحمة، ولكن معظمه سجون مهينة لأبسط حقوق الحياة. 15 ألف شخص على عشر سنين مئة ألف. مئة ألف من ستة ملايين. وهذا ما تطلبه السلطة، على ما تقوله «الجزيرة»، أمّا إسرائيل فقالت وزيرة خارجيتها السابقة: «عدد اللاجئين الذين نقبل بعودتهم هو صفر».
ما زال القرار الدولي 194 الذي يضمن حقّ العودة ساري المفعول نظريّاً. لكن إسرائيل لا تعبأ به. أمّا المناضلون فيبدو أنهم تعبوا وتنازلوا لا عن حقوقهم فحسب بل عن نضال العالم من أجل حقوقهم. راجع أوسلو. راجع مدريد. راجع كيف تحوّلت المقاومة الفلسطينيّة من ثورة لاسترداد فلسطين إلى جهد للبقاء في كراسي السلطة. من القتال لإعادة اللاجئين إلى تكريس الانفصال بين الفلسطيني المقيم والفلسطيني المهجَّر.
القضيّة الفلسطينيّة هي في جوهرها حقّ العودة. إن لم يعد الفلسطينيون فغداً سيُهجَّر سائر العرب من أرضهم. ولولا غريزة التجذُّر لهاجرت الأكثريّة هرباً من أنظمتها.
لمّا كان إميل لحّود يحذّر من التوطين كنّا نحسبه يهوّل. كذلك ميشال عون. عذراً أيّها السيّدان.
وداعاً للخداع. وداعاً للملوك والرؤساء والقمم والمفاوضات. وداعاً للعرب والمسلمين وللصليبيين ولصلاح الدين. دمعة بحجم السماء على اللاجئين.
راجعون؟ ربّما، إذا خرج منكم، من عذابكم الذي يستعصي على الوصف، من صبركم الرهيب، أبطالٌ لا سلطةَ تغريهم ولا مال.
لقد اتّكل الإسرائيليّون على تتابع الأجيال كي تضمحلّ من ذاكرة فلسطينيّي اليوم صور بيوتهم وعطور قراهم ونداء أجدادهم. هل يتغلّب النسيان؟ هل يستطيع الشعب المشرَّد أن ينزل في معاناته وقهره أبعد ممّا نزل؟
لقد تراكم العذاب على هذا الشعب حتّى أصبح العذاب شعباً بذاته. لا فلسطينيّو دولة إسرائيل ولا فلسطينيّو أرض السلطة أَولى من فلسطينيي المخيّمات. فلسطينيّو المخيّمات هم قلب فلسطين وضميرها وشهيدها.
تبّاً لهذه الأمّة العربيّة المحصَّنة بالعجز والفساد، المخيّرة بين الخيانة والانتحار، تبّاً لهذه الأمّة التي لا تَضاء فيها شمعة حتّى تصير فحمة ولا يُطلّ منقذٌ حتّى يصبح أسيراً!
تبّاً لنا نجاهر بالشعار ونخاتل بالعار، نموت أحياء ولا نموت لنحيا، نخلق الآلهة ونغدر بالبشر، نكذب ونحن نيام، نكذب ونحن نصلّي، نكذب بعد الموت!
كذِّبْنا يا شعب مصر! كذّبنا يا شعب تونس! كذّبونا أيّها الفلسطينيّون!
«سنرجع يوماً إلى حيّنا».
ربّما ترجعون، ولكنْ بلا قائد إلّا وجوهكم،
تقتحمون الحدود، سَمَح لكم العرب أم لم يسمحوا
وتحت أنظار كاميرات العالم
تَمشون عُزّلاً لابسين عذابكم وتعودون سيراً على الأقدام إلى فلسطين.
هراء طبعاً. هراء أقرب إلى العقل من العقل العربي.


حتّى لا تضيع دماؤهم

العرب الذين يبيعون فلسطين يبيعون لبنان وألف لبنان. لم يعد هناك عبد الناصر ليردع. ولا غرب ليتظاهر بالحماية. الحماية لاثنين فقط هما إسرائيل والنفط. وثالثهما التخلّف العربي والمزيد من التخلّف. لا يُخلّص لبنان إلّا اللبنانيّون كما لا يخلّص فلسطين إلّا الفلسطينيّون.
نكتب هذا أواخر الأسبوع والخوف ملك الساحة. الأمل كلّه في «العدم»: عدم نزول «حزب الله» إلى الساحة، وعدم انتقال الغضب السلمي الحريري إلى جيوب غير سلميّة. وفوق العدمين الرحومين هذين عدم أكبر: عدم الوصول داخليّاً بقضيّة المحكمة الدوليّة إلى الفتنة.
فجأةً يطلّ من الشاشة وجهان غير متجهّمين. نجيب ميقاتي مع مارسيل غانم. وجهان يشيعان الأمل. مارسيل غانم يقول لك، وسط أحلك الأوقات: لا تزال الدنيا بخير. والميقاتي يعود بنا وجهه بالذكرى إلى حكومته السابقة. كانت جيّدة. وجهه خير. «لنغتنم فرصة تكليف الميقاتي» قال حسن نصر الله. «صرنا ملوك الفرص الضائعة» قال الميقاتي، و«حان لنا أن نفعل شيئاً إيجابيّاً لهذا البلد». نحتاج أن يقولها سعد الحريري ليكتمل النصاب. نحتاج أن لا يكون وراء السياسيّين أحد في العواصم والكواليس يحرّضهم على الانتحار. نعرف ما يستطيع السياسيّون اللبنانيّون أن يفعلوا بنا فليرونا ما يستطيعون أن يفعلوا لأجلنا. بقاء الحريري على رأس الحكومة قد يحمي علاقة الشرعية اللبنانيّة بالمحكمة الدوليّة، لكنّه سيكرّس الانقسام الشعبي والمذهبي وربّما يستدرج الفتنة. قلناها، ولا فخر، قبل أعوام: الغفران لا الثأر. قلناها بكلّ الانكسار الذي تتضمّنه. بكل الاستيعاب الواجب لدروس الماضي وصراخ آلام الحاضر واسترحام المستقبل. لأن لبنان لا يحتمل العدالة. هكذا بكل وقاحة. لا بيت ولا شارع ولا قبيلة ولا بلد يحتمل العدالة حين ستجرّ وراءها مجزرة أضخم من الجريمة المُعاقَب عليها. على افتراض كونها عدالة. وحتّى لو كانت عدالة وستقصم ظهر طائفة بأكملها وتدخلنا في دوّامة مذابح فالواجب الوطني يقضي بالغفران. علينا بقمع الذات إلى أن يستقيم لنا توازن الرضى بعد اكتمال توازن التنازل. التنازل لا يكون عن الامتياز فحسب، بل أيضاً عن الحقّ. التنازل لحماية بلد هو تضحية في حجم الاستشهاد. ليكن هذا التنازل استشهاداً ثانياً. ولو عادت لرفيق الحريري وجورج حاوي وسمير قصير وجبران تويني وبيار الجميّل ووسام عيد وفرانسوا الحاج ورفاقهم لما تردّدوا في افتداء لبنان مرّة ثانية. ليس قويّاً في بَلَد بحجم الكفّ مَن يتسبّب بطحنه ولن يكون مساهماً في الحفاظ عليه مَن يعرف أن التحدّي سيهدم البيت عليه وعلى أعدائه. لقد سقط رفيق الحريري ورفاقه دفاعاً عن لبنان الواحد فلتكن دماؤهم سَقْياً للبنان الواحد وبكلّ القهر الممكن للذات حتّى لو بدا فوق الاحتمال. نحن، إلى إشعار آخر، وإلى أن نتغيّر لا نحن وحدنا بل محيطنا، نحن وطن المتبادلين تنازلاتهم وليس فينا فئة غالبة. ويجب أن لا يكون.

■ ■ ■

دورة القهر تدور على الطوائف بالتناوب. وبالتناوب نستعصم بالخارج ليحمينا فيستغلّنا ثم يتخلّى عنّا. المستجير من الرمضاء بالنار. اكتشف المسيحيّون هذه الخيبة مع إسرائيل. يكتشفها السنّة اليوم مع مصر والسعوديّة وأميركا وفرنسا. اكتشفها الشاه مع أميركا قبل أن يكتشفها بن علي بعقود. أصبح لبنان وسيلةً ممتازة من وسائل انتقام الحكّام الغربيين بعضهم من بعض. ساركوزي يفعل عبر لبنان عكس ما فعله شيراك، وأوباما عكس ما فعله بوش. إلّا دمشق: تثابر على نهجها ذاته منذ أربعين عاماً حتّى لتبدو كالقَدَر لا حيلةَ للبنان في الانعتاق من أحكامه. أمّا طهران فإن غدها في بلدنا هو السؤال لا حاضرها.
وكما اكتشفت 14 آذار طعنة التخلّي عنها ستكتشف 8 آذار أن الواقع ذاته سوف يسري عليها. هذا من قوانين اللعبة. الصغار صغار والكبار كبار. عاجلاً أم آجلاً. ليس ذلك من أركان التاريخ فحسب بل من طباع البشر. من أركان الطبيعة والكون. حلّ وحيد أمام الصغار هو سدّ المداخل التي تتسلّل منها أصابع الكبار للتلاعب بهم وعدم انبهار فئة بتفوقها على غيرها، فليس في الواقع إلّا تفوّقاً عابراً، وأفضل كثيراً أن يحصل التنازل خلاله من أن يحصل بعد تبخُّر النشوة وضياع الفَضْل.
نحن محكومون بالتنازل. هذه لعنتنا. لعلّها ضريبة ما ننعم به من تنوّع. ضريبةُ ما نُحسَد عليه. ضريبة ضجيجنا. لنعتبره نوعاً من الفَصْد إنقاذاً للشخص من الانفجار.
والانفجار هو ما نهرع إليه إذا لم نستيقظ جميعنا من الحقد والغرور.

■ ■ ■

ليعذرني غير المسيحيّين: أكتب هنا كمسيحي. لو هَجَرتني جميع القيم المسيحيّة أو هجرتُها لتمسّكتُ بالغفران. يوازن بولس بين الإيمان والرجاء والمحبّة فيفضّل المحبّة. المسيح مضى بالمحبّة إلى أقصاها: أحَبَّ أعداءه وغَفَر لقاتليه. أجمل ما في المسيحيّة هو هذا الانكسار. انكسارٌ ليس نقيض القوّة كما كان يظنّ نيتشه بل هو هو القوّة. وأعتقد أنه أجمل ما يمكن أن يدين به لبنان للمسيحيّة.
أنا واحدٌ من المسالمين الذين يقدّسون حياة الكائنات من الفراشة إلى الحوت. واحدٌ من الذين لا يرون في كلمة شارع إلّا رمزاً لنهر البشر المتدفّق تحت الشمس والقمر. لا سلاح ولا مارد مذهبي ينطلق من القمقم. أنا واحدٌ من مئات ألوف الضعفاء الذين يعتبرون ضعفهم نوراً من الله على جباههم ويرفضون العبور إلى شيء على الجماجم، لا إلى السلطة ولا إلى التحرير. أنا واحدٌ من المساكين الحالمين بشعب واحد، تجمعه قضاياه الإنسانيّة وتحفزه تطلّعات نُخبه وأحراره وتدعوه ثورات على الذات وعلى أمراض الجماعة لا ثورات دينيّة يتذابح فيها النعاج. أنا واحدٌ من الذين أتعبهم قَدَرُ الوجود في هذه النقطة من العالم ولا أستطيع الانسلاخ عنها. هذه تعاستي وهذه قوّتي.
... وليتوقّف لساننا عن تداول عبارات كالسين ـــــ سين والألف ـــــ ألف. لا حاجةَ لتكريس تبعيّة سياسيّينا بهذه المصطلحات شبه الدستوريّة. إنه ذروة الاستسلام الهازئ بالكرامة. لم يقدّم اللبنانيّون استقالتهم للسعوديّة وسوريا ولا لأميركا وإيران. قدّمها زعماء ومسؤولون ونوّاب ووزراء. الشعب اللبناني لا يمثّله أحد.
الشعب اللبناني المخدَّر نائم في الغابة.