(إلى عبد المنعم رمضان)نخاف على مصر كأنها مسقط رأسنا. كلّ عربيّ مصري. سرّ محيّر كأبي الهول. آباء هول كثيرة هنا وهناك وما من أبي هول أجمل وأهْيَبْ من هذا الحارس. أَنهارٌ تملأ المسكونة وما من نهر يُدَفِّق القوّة والحنان مثل النيل. اسمه نشيد. كان الإنسان عظيماً في مصر بدون شهرة. لا الملوك ولا الملكات ولا الكهنة ولا السَحَرة وحدهم بل الإنسان العادي. حتّى لو كان معمّرو الأهرامات عبيداً فقد كانوا عبيداً عظماء. ظِلُّ مصر شامخ أبداً.
نخاف على مصر كما يخاف الابن على أبويه والأبوان على طفلهما. أحد أسرار مصر هذا الجَمْع بين عتْق الدهور ورونق الصباح. أيّاً يكن حكّامها تظلّ مصر حاكمتهم ومهما نكّل الدهر بشعبها يظلّ شعبها محسوداً على بَرَكاتٍ تُرى ولا تُرى. شعبُ الطيبة والفرح والإيقاع والموهبة. لو كانت السعادة تُقسَّط بحسب الكفاءة لما استحقّ السعادة شعبٌ أكثر من المصريّين.
■ ■ ■
نحلم بالثورة ونخشى أن تتحقّق. ما إنْ تبدأ حتّى تتربّص بها المكائد، وإنْ لم يتصيّدها الخارج تتصيّد نفسها، وما كان انتفاضة مظلومين يغدو مادة «مفاوضات»، وما كان صرخة أبرياء يصبح متاهة.
ما أهنأ الماضي! كانت حوادثه تجري على طبيعتها قبل أن يتسنّى لأميركا (وإسرائيل) ذلك الزمن الإيقاع بها. كانت التطوّرات تولد من نفسها قبل أن يُتاح لأعداء الشعوب السيطرة عليها. تبّاً للحداثة! لقد أخذت في طريقها ما يؤخذ وما لا يؤخذ. لا بدّ من عودة إلى الوراء، عودةٌ إلى وراءٍ ما، إلى جنون ما لكسر وحشيّة هذا النظام العالمي الواحد، إلى بدائيّة غريزيّة للخلاص من دوّامة المكائد والمصائد، كأن يفيض نيلُ الشعب ولا يجرف النظام وحده بل يؤسّس، ولطالما كانت مصر تؤسّس، لعهد ثورات الشعب الحقّة، لا تُسترجع ولا تُحاصَر، وتصبح قدوةً لانتفاضات الشعوب.
لم تعد تنحيةُ حسني مبارك موضع بحث. لقد نُحّيَ ولو بقي مكانه، ولن يمدّد له «إصلاح» ولا التضحية بأحد من حاشيته. القضيّة الآن هي الانتقال من التنحية إلى حكم الشعب. لا حكم أميركي باسم مصري ولا إسرائيلي باسم مصري. حذار الخداع وحذار السقوط. لا ستّة آلاف سنة فقط تنظر إليكم أيّها المصريّون بل كلّ العرب المسحوقين.
■ ■ ■
إحدى الفضائيّات تعرض صورةً لبعض الشبّان الموقوفين بتهمة السرقة والنهب. ثلاثةٌ منهم يبكون. بعضهم بالكاد بلغ السادسة عشرة. «ـــ ليه سرقتم؟» ـــ شفنا تجمعات وناس يعني ياخدوا ويشيلوا... أخدت حاجة يعني...». الحاكم وأعوانه يرزحون تحت المليارات.
غير بعيد عن مثوى الملوك في الأهرامات، في مقابر العاديّين من الناس، يعيش مئات ألوف المصريّين ممَّن لم يجدوا مسكناً يؤويهم. قصورٌ لرفات الملوك وقبورٌ ومزابل للبشر الأحياء. حوربَ عبد الناصر بشبهة تحويل مصر والعرب نحو الشيوعيّة. ليته فعل! ما من خطر على الأصالة المصريّة. كان الشعب المصريّ كفيلاً بمَصْرَنة الشيوعيّة. ليته فعل! كانت شيوعيّة المصريّين ستكون أجمل وجه لدولة شيوعيّة. شيوعيّة ضاحكة سمحاء تنبض بالعفويّة. لا شيءَ أقوى من هذه الجذور النوبيّة الإثيوبيّة الليبيّة الممزوجةِ بالروافد الساميّة المُشبعة بأزكى ما في الحضارات من روح. اليوم يهوّلون على مصر بالفَرْسَنَة والتعصّب الإسلامي ويخوّفون الأقباط. ليقرأوا التاريخ. ليقرأوا الأدب المصري. من «كتاب الموتى» إلى أحمد شوقي، من صلاح عبد الصبور إلى أحمد فؤاد نجم، من طه حسين إلى نجيب محفوظ. ليراجعوا السينما المصريّة، الطرب المصري، الفولكلور المصري. «أمّ الدنيا» تُمصّر حتّى الأَمْرَكَة.
و«أمّ الدنيا» لا تستطيع أن تتقاعد من دورها الأبويّ في العالم العربي، ولو تمرّد عليها أبناؤها أحياناً. لا تدبير انقلابات وثورات في الدول العربيّة ولا استقالة من المسؤوليّة. لمصر شخصيّة ثابتة منذ الفراعنة على مرّ الثقافات والعصور. تبثّ أرضُها إشعاعاً لا يشبه غير ذاته. معدنها يُحوّل الطين إلى ذهب. لها على الدوام دورٌ جامعٌ بين الحكمة والرقص، بين الريادة والحماية. لم تتهرّب من الاضطلاع بدورها إلّا أصابها دُوار الخطيئة واستسلم عربُ المشرق وعربُ المغرب إلى افتراس أنفسهم أو بعضهم بعضاً. قَدَر مصر أن يكون قلبها بحجم قارة وأحضانها أُمّاً كَونيّة. لنقرأ كيف يردّ أفلاطون الفضل لحكماء مصر في ازدهار العقل الإغريقي. موسى خرج منها والمسيح هُرّب إليها. لم يزدهر إسلامٌ عربيّ كما ازدهر إسلامها، وإذا كان الموارنة قد حافظوا في أديارهم ومدارسهم على اللغة العربيّة وحموها من التتريك وأنتجوا بها نهضة، فإن الروح المصريّة هي التي تنعش هذه اللغة وتعيدها إلى الحياة كلّما تيَبَّسَ لسانها وجَعَّدَها التحذلُق. السلاسةُ مصريّة والنضارة مصريّة والظُرْف مصري و«الإنسانيّة» مصريّة.
أَخلطُ دائماً بين النيل كنهر والنيل الآخر، النبات الذي يُصبغ به أزرق. لا أعرف إذا كان من علاقة. النيليّ لونُ الأمّ، عطرُ قلبها، بُحّة وجودها. خُلعَت صفةُ الزرقةِ على الدانوب رغم أنّه بنيّ، النيلُ يستحقّ زرقةَ النيل التي تَحكّ نياط القلب، يستحقّها من منابعه إلى مساقطه، ومن هدوئه إلى هديره. لا نتكارم حين نخاف على مصر، فنحن نخاف على ما فينا منها، وهو كثير، وعلى رجائنا منها، وهو كثير أيضاً.
■ ■ ■
يا لغرابةِ هذه «الثورات» الجديدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي! مَن يذكر اسم رئيس في دول أوروبا الشرقيّة؟ «ثورات» غفلةِ التوقيع وحكّام كأنهم رؤساء مجلس إدارة. تكنوقراط، يسمّونهم في لبنان. يقصدون حكّاماً يخافون المخيفين.
الرومنتيكيّون يريدون أن يروا في الانتفاضة المصريّة مراحم القَدَر و«الواقعيّون» والبارانويّون يتساءلون: كيف اندلعت فجأةً في تونس العاقلة؟ لماذا الآن في مصر وليس من قبل؟ أين ستنفجر بعد غد؟ وهل تقتصر على دول المتوسط أم تمتدّ؟ والكلّ يشيرُ بإصبع ظنونه إلى الاستخبارات الأميركيّة.
أميركا الوضع القائم وأميركا الثورة على الوضع القائم. إلى أين؟، كما يقول عرّاف السياسة وليد جنبلاط. أميركا نفسها، هل تعرف إلى أين؟ كم أميركا هناك؟ من الصين إلى السعوديّة، كم أميركا هناك؟ من الشعب الأميركي إلى مراكز السلطة في أميركا، كم أميركا؟
لعلّ أكبر نسبة من هذه السمعة نسجُ خيال. ونسج الدعاية الأميركيّة. أميركا سيّدة العالم، إذاً لا تعصف إلّا بإذنها وإلّا فبمعرفتها. كاسترو مستمرّ في كوبا لأن لأميركا مصلحة في بقائه. الزلازل شغْلها. فيضاناتُ لويزيانا تدبير جمهوريّ لتقليل عدد السود. قتلوا كينيدي لأنه كاثوليكي. جاؤوا بأوباما لأنه مسلم. يدعمون تركيّا المتأسلمة إرجاعاً لها إلى الوراء. يزعمون مناهضةَ إيران ويبتهجون لبرنامجها النووي كي يخيفوا السنّة. ضدّ الإخوان المسلمين علناً ومعهم سرّاً. أميركا الامبرياليّة الرأسماليّة هي نفسها، بهذا المنظار، أميركا خَلْع المحنّطين والفاسدين. تُغَيّر رجالها حتى لا يغيّرهم أعداؤها.
يبقى أن ما يصفع النظر في كل حال هو الواقع الصارخ يوميّاً على الكرة الأرضيّة، وهو أن السياسة الأميركيّة، منذ ما بعد وودرو ولسون على الأقلّ، سياسة انتهازيّة تبني على الشيء «مقتضاها» ولا تتراجع عن استعمال كلّ الوسائل، بما فيها السينما ونظريّات الفلاسفة، لتسويق خططها. منذ استسلام الاتحاد السوفياتي وأوروبا لم يعد هناك مَن يقاوم. عالمُ «الحياد الإيجابي» زال وأصبحت كبيرته الهند دولة نوويّة. صار الحياد رؤيا فردوسيّة. كان حلم المقهورين وبات حلم القادرين بَعْدُ على الحلم.
نخاف على انتفاضة المصريّين من خاطفي الثورات. الخوف نفسه على انتفاضة تونس. على كلّ تنهيدة نقيّة يُطْلقها صدرُ شعب. ومع هذا، لنفرح بهبّات التغيير، لنفرح على الأقلّ كما يفرح المحتفل بكأسه في بدايتها.
الأمل وسط هذه المخاوف أن الشعوب لا تتعلّم. لا تنهزم هزيمة أبديّة. تُجدّد شبابها عند كلّ نسيان. تعود إلى الحياة كلّ مرّة أوّل مرّة.
■ ■ ■
من أبشع مفاعيل الثورات وباءُ التبرّؤ. يكثر السلّاخون. أين كان هؤلاء قبل فرار بن علي؟ المشهد الفاضح تفرّدت به الحكومة الفرنسيّة: وزيرةٌ تدعو إلى مؤازرة بن علي في قمع الاضطرابات وبعد تطورات الساعات التالية تراجَع ساركوزي وحكومته وبدأت مسيرةُ النفاق في تأييد «إرادة الشعب». أوباما وإدارته فعلا ما هو أبلغ تعبيراً عن لاأخلاقيّة السياسة خلال الأيّام الأولى لانتفاضة مصر. ثم كرّت سبحة المنافقين. الثورات فرصةٌ ضخمة للتهريج، يختلط فيها الكرنفال بالأحقاد، تصفية الحسابات بآمال المظلومين، وصوليّة السياسيّين ورجال الأعمال والصحافيّين بأحلام الأبرياء. قبل انصراف بوش الابن كانت أكثريّة الصحافة العربيّة تعتبره إلهاً، رغم الحذاء العراقي، وما إنْ غادر البيت الأبيض حتّى تبارت الأقلام في شتمه. أمام شلّالات النفاق يشتهي المرء أن يسمع أحداً يُعارضه. يعارض عندما الكلّ يؤيّد. يؤيّد عندما الكلّ يعارض. فقط لحفظ ماء وجه الشجاعة.
عندما أسمع هذا الكاتب الشهير يهاجم اليوم حسني مبارك أتساءل أين كان خلال ثلاثين عاماً مضت من حكم مبارك. كيف يستيقظ ركّاب الموجات. كيف يحصد عابرو السبيل القمح قبل أصحابه. كيف أصبحت هذه البقايا طازجة وهذا الرفات شباباً غضّاً. لا يقتلني الطاغية بل المنقلبون عليه من الحاشية. من الحاشية وممَّن تنبّهوا «فجأة» إلى عيوبه. والشعب هو ضحيّة هؤلاء بقدر ما هو ضحيّة الطاغية. بل أكثر، فلولا الجبناء والمداهنون لما تمكّن الطاغية من سحق شعبه. ربّما لذلك ثار رجال الثورة الفرنسيّة بعضهم على بعض بعدما خلعوا الملك. تعاقبوا على تطهير الثورة من أنفسهم.

نخاف على مصر خوفَ الرأسِ على حلمه. وفجأةً نتذكّر ما تقوله لنا الأهرامات: العظماء يشيدون لأنفسهم قبوراً يستمتع بالتنزّه حولها البسطاء. هذا البلد الذي أحد كتبه الخالدة اسمه «كتاب الموتى» روَّضَ الموت. لم يحنّطه فقط بل ضحك عليه. استطاع فقراؤه بفائض الحياة وفرحها أن يؤاخوا الموت ويدحروا أشباحه في عقر دارها. زرعوا الأطفال وضحكاتهم بين القبور. لن تستعصي مشكلة على الشعب المصري. لن تمزّقه مؤامرة.
نخاف على مصر ولا نخاف. شعبٌ مسوَّرٌ بحبِّ الشعوب لا يُغْلَب. شعبٌ تسري في عروقه دماءُ أعظم الحضارات لا يُغْلَب. كلّ نهاية، حتّى الموت، هي في مصر بداية.