ستّة أعوام على استشهاد رفيق الحريري. الرجل الذي لم يفارقه ظلّه بعدما خرج إلى العلن. صورٌ عديدة تترسّب في الذهن: أعمال الخير، مِنَح الطَلَبة، خَرْقُ الحصار الغذائي على صيدا أثناء الغزو الإسرائيلي، الطائف... بدء تكوين نخبة من المستشارين. ترسيخ الروابط مع النظام السوري. تَوسُّع حكايات المساعدة والوفاء لأصدقاء الأمس. بدء تهافُت صيّادي الأثرياء. ترويج شائعة «أسلمة الأرض»: هجومٌ على آليات «أوجيه» في كفرفالوس.المشهد يتقلّص ويتّضح: دولةٌ منهارة ومجتمع منكوب، وفي الطرف الآخر، بعباءةِ الغموض الفعّال، رجلٌ بمنتهى الثراء يُقال إنّه يحمل العصا السحريّة.
تلك اللحظة لم يكن أحدٌ بقوّة استقطاب هذا الرجل. وشيئاً فشيئاً بدأ يُشغّل عصاه كما في الحكاية، بلا صَخَب ولا ظهور، وتتفاعل دوائر حركته كما يتفاعل سطح البحيرة تحت هبوب الرياح.
لم يلبث البلد المُنْهَك أن استسلم للرجل القويّ. وانطلقت ورشةُ التعميرِ والترميم والتضميد. سَرَت في العامّة قشعريرة الانفراج. أمّا الخاصّة فكان لها في الغالب مواقف غير نزيهة، كما هي الخاصّة في كلّ زمان ومكان: ما لا تمليه صنميّات العقائد يمليه وحي الدول، وإلّا فالمصلحة الشخصيّة. ومع ابن صيدا المسكون بحبّ بيروت لم تتأخّر التحوّلات، بل راحت تنهمر كسماء شَقّتها براكينها.
مَن لم يعش ذلك الجوّ المحموم لا يعرف معنى الحمّى الالتحاقيّة. وباءُ المال. تحوّل المجتمع بالعدوى إلى هوس الإثراء. إلى تسلّق القطار. أفظع من تهافت الأميركيّين على مناجم الذهب. حريقٌ هائل شبّ في الرؤوس. حريقُ اللحاق بالحريق. حريقُ القطف من هذا الكَرْم الخرافيّ. أرقام خياليّة تُنسج حولها الحكايات. مقاه ومطاعم ومكاتب لا تلهج بغير هذا. فلانٌ جاء لزيارة الحريري مستقلّاً سيّارة تاكسي فلمّا علم الحريري بضيق حاله أمر له فوراً بسيّارة. فلانٌ سُدّدت ديونه وفُتح له حساب. فلانٌ أصبح على لائحة الرواتب. فلانٌ تلقّى هديّته في حقيبة. ناسٌ قبضوا «تعويضات» إخلائهم لمنازل غيرهم ثلاث مرّات لأنّ وراءهم بعابع. وادي الذهب. صحفُ الذهب. شوارعُ الذهب. مهندسو الذهب. مصرفيّو الذهب. محامو الذهب. مثقّفو الذهب. يساريّو الذهب. سُفراءُ الذهب. نوّاب الذهب. وزراءُ الذهب. رؤساء الذهب. حلفاءُ الذهب. أعداءُ الذهب. في الداخل والخارج.
■ ■ ■
ولم يَشْبع أحد. مَن لم يَعُم على النعمة عام على الحَسَد. والحريري كالبحر يأخذ ويعطي. وبنى علاقات بحجم قارة، وأصبحت قامته أكبر من ظلّه وظلّه أكبر ممّا تُطيق الشموس. فلقد كان ظلّاً من نوع خاص، ظلّاً أشدّ سطوعاً من النور، مزعجاً لمَن تزعجه الشمس ومزعجاً لمَن تزعجه العتمة، ظلّاً همسُه أوقعُ من الصراخ وفعلُ صدقه أقوى من سحر ماله.
كانت تُخيفني أساطيره الماليّة وتَبعثُ فيَّ مشاعر الغيرة والحسد. لم أتأثّر بهالته ولا بسياسته. تقليديّة تفكيره تحمل على الضجر. وسط بيروت الذي عمَّره يُصقّع الرأس لفرط خلوّه من الروح. مواكبُ سيّاراته كانت تُشعر المارّة بأنهم حشرات. مسايرته للأقوى منه لا تستحقّ الاحترام. ومع هذا، ومع غيره من السيّئات، كنتُ أرى فيه سذاجة...
الحريري ساذج!؟ يعني فيه طيبة!؟ هذا السوليدير الملياردير اليميني السعودي الأميركي الشيراكي الرجعي؟ ماحي ذاكرة بيروت!؟ مُفسد الجمهوريّة!؟ مصّاص الدماء!؟
أُجيب عن هذه الاستنكارات بسؤال: لو لم يكن في هذا الرجل ما يعترض مشاريع الشرّ، فهل كان قُتِلْ؟
■ ■ ■
لو كان بلزاك حيّاً لوضعَ أخطر رواية له عن تلك المرحلة: كلّ النفوس باتت تحت المجهر، خرجت من جحيم الحرب إلى جحيم الحلم بالكسب السريع، من خرائب المباني وهياكل البلد العظميّة إلى سراب المراعي الخضراء.
لم يطل الأمر بالحريري حتّى اكتشف أن احتقاره للطبقة «الفاعلة» بات يوازي نشوته بالسلطة. والأرجح أنه كان يشعر بنوع من الرضى عندما كان يصادف، ونادراً نادراً ما كان، أحداً يقاومه. نقصد أحداً يقاومه مجّاناً لا ليزيد سعره لديه ولا لأنه مأجورٌ لدى خصم له. يحقّ لنا الافتراض أن الحريري أقبل على دنيا السياسة مخدوعاً بالكبار وبالأقوياء وبالشرفاء وخرج من الدنيا غير آسف إلّا على أحلامه.
قبل أيّام توفي المخرج السوري عمر أميرالاي، وكان من أواخر أعماله شريطٌ توثيقيّ عن الحريري سمّاه «الرجل الذهبي النعل». كان أميرالاي ثوريّاً. وقد وضع في هذا الفيلم ثقله الذكائي والفنّي للإيقاع بالحريري، لمطابقته على كليشيه الثريّ السلطويّ السمين غير المثقَّف المحفورة سلفاً في الرؤوس، ولا سيّما رؤوس المثقّفين «التقدميّين»، فإذا بالفخّ ينقلب منصّة يطلّ منها الملياردير بمزيد من الصدق والبساطة. كان الحريري طوال الفيلم ينضح بشعور الذنب لكونه صاحب قصور وسلطان، وأحياناً يبدو على حافة إبداء الاعتذار عن يسره، وحين أظهر فرحاً بهذا اليسر بدا كفقير يعتزّ بنعمة الله عليه. وعوضَ أن يصطاد أميرالاي الحريري اصطاد الحريري أميرالاي، كما قال بحقّ الناقد السينمائي هوفيك حبشيان.
غلبته طيبة الحريري. طيبةٌ لم يخفّف الثراءُ الهائل من حزنٍ قديم فيها. من تهيُّب عريق. من حرمان قديم هو حرمانُ طبقة وشعب لا حرمانَ شخص. من تواضع لم يجرفه الاعتداد بالنفس.
غالباً ما يُقتَل الذين يُقتَلون لا للشرّ الذي فيهم بل للخير. حتّى الأشرار عندما يُقْتلون يعاقَبون على خير أتوه لا على شرّ. القاعدة أن يَغْلب السيئَ مَن هو أسوأ.
■ ■ ■
التقيتُ الحريري ثلاث مرّات. «عم تهرب منّا؟» عاتبني على الهاتف. رجوتُ الصديق نهاد المشنوق، وكان يومها الكلّ بالكلّ، أن يوضح له بكلمة طبيعتي الخجولة المنعزلة ولا سيّما حيال الحكّام وبالأخصّ منهم المليارديريّة. أمثالي من الفقراء يفضّلون فيءَ الأحلام على شمس الواقع. من بعيد لبعيد. الفاسدُ الذي فيَّ يفضّل أن يظلّ يحلم على أن يحقّق حلمه. كنت، في باريس، إذا ساقني الدربُ إلى حدود قصر الإليزيه أسارع للانتقال إلى الرصيف الآخر ويظلّ قلبي يخفق حتّى يصبح كل هذا السلطان ورائي. رواسب من عِقَد كثيرة. بل جذوعٌ وأغصانٌ وأشجارٌ جديدة.
المرّة الأولى كانت في قريطم بواسطة الزميل سمير منصور مندوب «النهار» لدى الحريري. كانت للتعارف. وسألني: «ما به جبران (تويني)؟ شو قصّتو معي؟». كان جبران يهاجمه كتابيّاً مرّة في الأسبوع وشفهيّاً كلّ ساعة. كذلك علي حماده. وصارحني بحَرَجه من مواقف «النهار» المناوئة للانتداب السوري. «أنا كافلكن عند السوريّين»، وكأنه يقول لي «عم تزيدوها عليّ». وتحدّث عن بعض شجونه السياسيّة، وعن الانتخابات النيابيّة التي عاد وحقّق فيها انتصاراً ساحقاً. وشجّعني على زيارته: «أبوابنا كما ترى مفتوحة. ما في تكليف. لازم نشوفك أكتر». وفجأةً دخل في حديث وجدانيّ عن الأب. الوفاء للأب. حبّه واحترامه. «الأب عندي مقدَّس». لم أفهم الإشارة. هل كان يقصد التعارض بين جبران وأبيه غسّان، غسّان يؤيّده وجبران يهاجمه؟ الأرجح. بدا لي كممثّل مصري يجسّد الأخلاق التقليديّة في فيلم توجيهيّ. عماد حمدي أو أحمد مظهر. قلت له وأنا أستأذن بالانصراف: «حلفك مع وليد جنبلاط أذكى ما عملتَه». انفرجت أساريره وسيطرت ابتسامة سعيدة على وجهه. ابتسامةٌ من قلبه. «ما هيك؟» قال لي. عند الباب لم أتمالك عن سؤاله: «لا بدّ أن تكون محاطاً بالجواسيس. هل تحتاط كفاية؟». أجاب بعد ثوان: «اطمئنّ. قدّ ما عندن عندي. وأكتر».
■ ■ ■
لم نلتق ثانيةً إلّا بعد أسبوع على استقالتي من «النهار». زرته مودّعاً بصفته الشريك الأكبر في الجريدة وبعدما علمتُ أنّه اهتمَّ للموضوع. كان يقرأ مقال استقالتي في «الديار» و«القدس العربي» و«الوطن العربي» بعدما رفضت «النهار» نشره. قال: «الله يسامحك. ما كان فيك توسّع الدواير؟ حشرتو لغسّان بالاختيار بينك وبين ابنو. ما عندو غيرو. الله يسامحك». أجبته، وكنت نصف جالس على المقعد لفرط حرصي على عدم إحراجه هو بخلافي مع «النهار»: «أنا هيك مرتاح». وسألني: «شو ناوي تعمل هلّق؟»، أجبته: «لا شيء». ـــــ «والصحافة؟» ـــــ «لا شيء. سأرتاح من الصحافة». أضاف ما يُفهم منه ضرورة «البقاء على تواصل». لم أبقَ على تواصل. لم أكن على تواصل. أكره التواصل مع الحكّام. ومع المليارديريّة لا أكره بل أخاف. أخاف أن يمدّ يده إلى جيبه.
يحتاج الجسم الصحافي إلى قانون يضمن للصحافيّين عيشهم الكريم من تعبهم الحلال. قانون يمنع الصحافي من الوصول إلى السلطة. يمنعه من الابتزاز ومن الارتهان ويمنع دوائر رأس المال الكبرى، كأصحاب الصحف الخليجيّة، من منافسته حتى الموت. الصحافي أحوج من القاضي إلى الاكتفاء والحصانة، لأن القاضي يحكم في قضايا حصلت والصحافي يؤتمن على الحاصل وما يحصل وما قد يحصل.
■ ■ ■
تخلّل المسافة بين الزيارتين تلفون عاتبني فيه بمرارة على مقال لأحد ضيوف «النهار» ضد موازنة الوزير السنيورة. قال: «شو، هيئتنا راح نوصّل معكن ع القضاء؟». استفزّني كلامه. أجبته: «ع القضاء ع القضاء». قال: «المقال ظالم ومحشوّ بالأغلاط». قلت: «ردّوا». قال مستعيداً دماثته: «أكيد أنت لم تقرأه». قلت: «قرأته ونشرته. لستُ خبير اقتصاد، لكنّي أضمن للرأي منبراً كما أضمن الرد على الرأي. أبسط قواعد الصحافة». قال: «صاحب المقال غير بريء. إنه من جماعة الاستخبارات». قلت: «ضابط متقاعد متابع للموضوعات الاقتصاديّة وهذا ليس أوّل مقالاته. ويبدو لي صاحب خبرة. على كل حال، إذا كان من ردّ عليه فأهلاً وسهلاً». اقتنعَ ولم يقتنع. في مكان ما كان على حقّ. في مكان الشعور بالتحامل. لا شكّ أن سوليدير أكل حقوق كثيرين من أصحاب الحقوق ولا شكّ أن الحريري كان في محلٍّ ما ضحيّة لمفترسين أكثر توحّشاً من أيّ سوليدير.
المرّة الثالثة والأخيرة كانت في تموز 2004 عندما جاءني إلى صالون كنيسة القديس يوسف ـــــ الحكمة معزّياً بزوجتي. كان في أوج اكتئابه ممّا يُحاك ضدّه من دسائس ومؤامرات، متجهّماً لم يستطع أن يكبت ألمه ممّا يحصل. أطلقَ عبارة صريحة ناقمة نادراً ما فاه بمثلها أمام جمهور. كان يُنفّس عن كَرب كمخنوق.
اغتيال الحريري أكمل إدخاله الأسطورة. كثيرون سواه اغتيلوا، بينهم رئيسا جمهورية ورئيس حكومة ومفتي الجمهوريّة. لماذا الحريري يدخل الأسطورة؟ أصداء ثروته ومخلّفاتها تُساعد، لكنّها لا تصنع هذا القَدْر من الأهميّة ولا هذه الهالة. لم يكن قدّيساً ولا ملاكاً ولا مصلحاً ولا ثائراً. ومع هذا. لماذا؟ لأنه كان إطفائيّاً في بلد دائم الالتهاب. تارة يُطفئ بالمال وطوراً بالعلاقات. والإطفائي عنصر طمأنينة. حتّى كارهوه يرون فيه منقذاً عندما يفرّ الجميع من أمام النار. ليس صحيحاً أن جمهور الحريري هو السنّة وحدهم، ولا أن قاعدته الشعبيّة هي البورجوازيّة عموماً، فثمّة بين الفئات التي يفترض بها منطقيّاً أن تناهضه، كالعمّال والفقراء، مَن لا يزالون يرون فيه زعيماً أخلص لوطنه وصبر على مكاره لا تُحْتَمل.
يقول أخصامه إنّه تَحمّل من أجل السلطة وإنه دخل إلى هذه ببضعة مليارات وغادرها بأضعاف أضعاف ما دخل. قد يكون ذلك صحيحاً، لكنه لا يقلّل من جوهر الهالة المحيطة باسمه. لماذا؟
لأنّه ظُلِم حيث لم يَظْلم. إذا كانت جريمته الفساد فمعظم مناوئيه كانوا أكثر فساداً، وإذا كانت العلاقات الدوليّة فجميع أخصامه مرتبطون أو مرتهَنون أو عشّاق ارتهان أكثر منه. لم يَقْتل، وقُتل. الدم لم يستسقِ الدم. أُهْرق دمُ مَن كانت فضيلته الكبرى هي المسالمة.
كلُّ الذين كُتب التفوُّق على جباههم محكومون بلعنة. بصيبة عين. البصّارات على حقّ، منذ فجر التاريخ. الحقيقة؟ حجم بلدنا الصغير هو الذي قتل الحريري. جميعنا. وجميعهم. لا أحد بريء من دم هذا الرجل.