ترتسم معالم البهجة هذه الأيام على وجه عبد الباري طاهر، أكثر من أي وقت مضى. يبدو كثير الحركة، موزعاً يومه بين اعتصام مطلبي هنا، واحتشاد طلابي هناك. عندما سمع، في ساعة متأخرة من الليل، بأن جنوداً بزيّ مدني يتوجّهون في الناقلات، لتفريق اعتصام طلابي أمام ساحة جامعة صنعاء، لم يتردد في ارتداء ثيابه، والخروج على عجل، كي يكون بالقرب من الشباب. «نجح الشباب اليمني في زرع الابتسامة والأمل على وجوهنا، نحن الذين كانت حياتنا عبارة عن مجموعة هزائم متتالية»، يقول. لقد حطّم هؤلاء قناع القوة الوهمي للنظام من وجهة نظره: «إنّها سلطة ضعيفة تعتقد بقوتها، ومعارضة قوية تظنّ في نفسها الضعف... القوة الجديدة قلبت تلك المعادلة».
ولد عبد الباري طاهر في منطقة المراوعة (الغرب من صنعاء) المطلّة على سهل تهامة الموازي للبحر الأحمر، تلك المساحة الوديعة والمسالمة من الجغرافيا اليمنية المعروفة بالعلم والتواضع. لا نجد صعوبةً في الإمساك بالمرجعية السلمية التي يعتمد عليها هذا التُّهامي النبيل في تسيير أيامه. يبدو ارتباكه واضحاً حين نستعدّ لالتقاط صورة له. هل لهذا علاقة بطبعه التهامي الخجول؟ ليس بالضرورة. هو لا يحب الظهور في الصورة، إذ يعتقد أنّها تفضحه. لكنّه يرضخ لنا في نهاية الأمر، عندما نخبره أنّ هذا البورتريه لن يستقيم بغير صورة تسند قوامه.
أمضى عبد الباري قسطاً كبيراً من حياته في العمل السياسي السري، داخل اليمن وخارجه، ما فرض عليه اختفاء الصورة لصالح الأسماء المستعارة. يتذكر تلك الأيام التي امتدت على مساحة عامين بين 1980 و1982، وعاشها متخفياً وموّزعاً بين دمشق وبيروت. «شُغلت حينها بالكتابة باسم مستعار في «السفير» مع بلال الحسن، وفي «النداء». حرصت يومها على نقل ما يحدث في اليمن إلى القارئ اللبناني والعربي».
اضطر صديقنا إلى مغادرة اليمن الشمالي حينذاك، بعد اتهامات وجّهت إليه بالانتماء إلى الجبهة الوطنية الموالية لنظام عدن الماركسي في الجنوب، وكان يقال إنّ مهمتها انحصرت في أداء عمليات تخريبية في الشمال. انتهى الخلاف بإجراء مصالحة بين الجنوب والشمال، فعاد «المخرّب» إلى ربوع الوطن.
لا ينكر الرجل الذي كان أول نقيب للصحافيين اليمنيين بعد إعلان الوحدة (22 أيار/ مايو 1990)، أنّ ولادته في منطقة قريبة من الحجاز السعودية، أعطته فرصة الاطّلاع على تراث أدبي وثقافي وفكري متنوع. كان هناك تسامح مع نوع محدد من الكتب، مثل «كتب العقّاد وطه حسين» قبل أن يحاصرها المد الوهابي، لكن منفذاً آخر فُتح أمامه من الجهة الجنوبية. هطلت عليه من عدن كتب اليسار بطريقة سرية. ماركس ولينين في الأساس، وكتابات المفكر اليمني الجنوبي عبد الله باذيب، كانت نقلة نوعية صوب فكر مغاير لما كان سائداً: «كانت مغامرة الحصول على هذه الكتب وكمية الخطر الملتصقة بها، تهون أمام كمية المتعة واللذة المنتظرة منها».
تلك القراءات كانت طريقه إلى العمل السياسي السري، عن طريق أحد الفصائل اليسارية الصغيرة. كذلك ساعده مخزونه الثقافي على حجز مقعد متقدم له في العمل النضالي الثقافي، فهو بطبيعته يجد نموه في هذا الميدان، كبيئة آمنة ووسيلة للتمدد والانتشار.
عهده بالصحافة يعود إلى مطلع السبعينيات، حين عمل في تحرير مجلة «الكلمة». وقد فتح له العمل الصحافي آفاقاً واسعة من العلاقات الثقافية والسياسية، وخصوصاً مع انتقاله إلى صنعاء للعمل في مجلة «اليمن الجديد» الثقافية. بعدها عمل صحافياً في جريدة «الثورة» التي تسلم رئاسة تحريرها عدّة مرات، ولفترات قصيرة: «ما كانوا يجدون غيري لتولي هذا المنصب. عندما يتصارع طرفان قويان في السلطة، أكون خيارهما الوحيد»، يقول ضاحكاً.
يبتسم عبد الباري وهو يستعيد حادثة اعتقاله من قبل عربة جنود مدرعة، بعدما أخطأ خطاط الجريدة في صفة رئيس الجمهورية حينذاك، الراحل عبد الله الحمدي. لقد كتب في المانشيت الرئيسي: «قائدة المسيرة» بدلاً من «قائد».
يعدّ طاهر تلك الفترة من أخصب فترات حياته المهنية، تمكن خلالها من الوصول إلى رئاسة نقابة الصحافيين (في الشمال) لثلاث فترات متتالية، والخروج بمجموعة حوارات صحافية ما زال فخوراً بها حتى اليوم. «أجريت حواراً مع المفكر اللبناني الراحل حسين مروّة (1910 ـــــ 1987)، نسمة الهواء، العالم الحالم، وعاشق السلام. لم يكن ممكناً أن نتخيّل أنَّ رجلاً عاشقاً للسلام مثله، يُقتل بتلك الطريقة». كما أنّه لا ينسى لقاءه بالمفكر السعودي عبد الله القصيمي (1907 ـــــ 1996) في القاهرة، لكن بعدما أجرى معه الحوار، رفض إعطاءه النسخة المكتوبة منه. «أخبرني أنّه يخشى أن يجني عليّ بعد نشره».
لم ينشر اللقاء إلا بعد وفاة القصيمي، في الذكرى العاشرة لرحيله، حين نشرت صحيفة «الرياض» السعودية ملفاً عنه. أجرى أيضاً حوارات مع صلاح عبد الصبور، وغالب هلسا، وتوفيق يوسف عواد، وأدونيس، وسعدي يوسف، ومحمود أمين العالم. لعلّ تعمده التركيز على هذا الشكل من العمل الصحافي يعود إلى إيمانه بالحوار وسيلةَ نضال وفلسفة وجود... وهذا ما يؤكده دائماً في معظم ما ينشره من مقالات ودراسات، صارت مرجعاً للجيل الجديد الآتي إلى عالم الصحافة. جيل يتخذ من عبد الباري طاهر نموذجاً للنزاهة الفكريّة والكفاءة المهنية والصدق في الحياة، ودليلاً موجزاً عن معنى أن يعيش المرء بكرامته، رغم عدم حصوله على أي مكسب مادي يذكر بعد كلّ تلك
السنين.
نحاول إيجاد خاتمة مناسبة لحوارنا مع عبد الباري طاهر، فنعجز. لا نهاية للتفاؤل الظاهر على محيّا هذا الرجل. قبل أن نغادره، يؤكّد لنا كمن استدرك شيئاً أنّه على ثقة بأن الآتي أجمل، عن طريق هؤلاء الشباب الذين «نزلوا على أيامنا فجأة، فأحالوا كلّ قاتم فيها إلى خضرة لا نهائية على امتداد النظر». ويضيف بخفر: «كم أتمنى أن يقبلوني فرداًَ في جمهوريتهم المقبلة». من قال إنّ السبعين هي خريف العمر؟!



5 تواري

1941
الولادة في المراوعة
(اليمن الشمالي سابقاً)

1976
شارك في تأسيس
جمعية الصحافيين اليمنيين

1990
أول نقيب للصحافيين
في اليمن بعد الوحدة

2001
صدور كتابه «فضاءات القول»
(مؤسسة العفيف ـــــ صنعاء)
وهو مجموعة حوارات أجراها
مع عدد من الرموز الثقافية العربية

2011
يحتفل بالسبعين
على وقع التظاهرات الشبابيّة