رحلت الشهر الماضي إليزابيت تايلور، بروتوتيب الفنّانة التي ظنّت أنّ الحياة سينما.هذا الجيل يجهلها، ولم يعد هناك مَن يماثلها بين ممثّلات هوليوود. حضورٌ مغناطيسيّ حتّى في الأدوار العاديّة. وجهٌ حالم ناعم على نيّة قاسية متوحّشة. عينان بنفسجيّتان تأسران مَن لا تريده وتظلّان بلا تأثير على مَن تريده. عذّبت أزواجها الثمانية (هم سبعة، عادت وتزوّجت أحد مطلّقيها، الممثل ريتشارد بورتون) وعذّبوها بلا سبب غير كونها موجودة وغير موجودة، ملكة ومتملّكة، وفي الحالتين بشكل مُجنّن. عشّاقها خارج الزواج غير معروفي العدد.
ذات الحضور الحسّي الهائل والرومنسي الأهْوَل، وذات السيرة البوهيميّة الفالتة من كلّ عقال، هذه التي جسّدت للشاشة، إلى جانب أدوارها العابرة، بضعةً من أصعب الأدوار النسائيّة القلقة والممزَّقة («مَن يخاف فيرجينيا وولف؟»، «قطّة على صفيحٍ ملتهب»، «فجأة الصيف الماضي»، «انعكاسات في عين ذهبيّة»، «ترويض الشرسة»، فضلاً عن أشهرها «كليوباترا»)، كانت ضعيفة كأيّ امرأةٍ حيال الترف والمجوهرات، وقيل إنّها عندما تمرض لا تشفيها الأدوية بل عقود الماس والياقوت والأوبال والعقيق والزمرّد، ولا شيء من هذه يضاهي لمحةً من فتنةِ عينيها الذهبيّتين البنفسجيّتين المائل لونهما مع الوهج المهيمن.
كان لها الصوت الأرقّ، يظلّ شديد الأنوثة رغم المعاني الجارحة التي يؤدّيها أحياناً. وكنتَ تتوقّعها في مكان فتأتيك من آخر. حاضرةُ النكتة. ذات يوم زيّنت معصمها بسوار حفرتْ عليه: «اسمي إليزابيت تايلور. إذا عثرتم عليّ، أعيدوني إلى سيّدي».
مَن أَحبّها أَحبَّ أيضاً في الغالب مَن شابهها. نوعٌ يطارده هواة الأطياف، مهلوسو الخرافة. امرأةٌ من النوع الذي تدمنه إذا تعاطيته وتدمنه إذا لم تنجح في الوصول إليه. تغازلها فكأنّك تشاكسها، وتجافيها فكأنّك ظلمتَها، وترمي روحك عندها فكأنّك ارتميتَ إلى الهاوية.
آخر أساطير هوليوود كانت أجمل من أفلامها. لم ينتهِ فيلم لها على الشاشة إلّا تركَ في النفس حسرةً لغيابها لا تُطاق. حسرةُ فطام. آخر فاتنات هوليوود كانت أجمل بكثير من أفلامها ومن حياتها.
■ ■ ■
هل حقّاً كانت إليزابيت تايلور جميلة؟ لماذا لم تعد جميلة في شيخوختها؟ بعض أفلامها دبقة ثرثارة، كتلك المقتبسة من مسرحيّات، ولا سيما لتنيسي وليامس الشديد المَرَضيّة، ومع هذا نتسمّر أمام مَشاهدها كالممسوسين. دائماً أفضل مَن في أفلامها، حتّى عندما تلعب أمام نجوم كمارلون براندو أو كاترين هيبورن أو مونتغومري كليفت. كانت شخصيّتها اليوميّة أغرب أدوارها، وهو الدور الوحيد الذي لم يحظَ بالتصفيق، بل غرق في الشقاء والإفراط والدموع وبات سلوى لقرّاء مجلّات الفضائح. الفصل الأبرز هنا زيجتاها من الممثّل ريتشارد بورتون: هو، عنفُ العقرب وانتحاريّته، وهي، الحوت المستمتع بالتضحية والباحث مع هذا عن سيّد يسيطر عليه. لقد اضطلعا معاً بالبطولة في فيلم «مَن يخاف فيرجينيا وولف؟» المأخوذ من مسرحيّة إدوارد البي، قصّة زوجين يتناحران ويتجاذبان ويتكارهان بلا هوادة، وكانت في الواقع قصّتهما دون زيادة، قصّة امرأةٍ وُهبت منذ طفولتها (أوّل أدوارها لعبته في التاسعة من عمرها) نعمة الفتنة وموهبة تقمُّص الأدوار بسهولة عجيبة، فتحكَّمَت في شركات الإنتاج تحكُّماً مطلقاً وجلست بلا منازع على عرش هوليوود حتّى تقاعدت، ورجل طموحٍ مثقَّف، ممثّل شكسبيري منفتح المنخارين انتزع إعجاب اللندنيين قبل أن ينتقل إلى لوس أنجلوس، ولم يخلُ تودّده إلى إليزابيت تايلور من الوصوليّة، طامعاً بالتسلّل إلى العالميّة من بوّابتها، وهو ما حصل. ولكن لا اجتهاده ولا انتهازيّته ولا كفاءته تمكّنت من رفعه إلى مرتبتها، فبقي ثانياً، ورغم هوسه العشقي بها كان، سواء تحت تأثير السكْر أو القهر، غالباً ما ينهي السهرة معها بضربها. بريطانيّان شغلا أميركا والعالم بسيرةِ حياة لو بُعث شكسبير حيّاً لجعلها درّة مآسيه.
بعد طلاقها الثاني منه انفجر دماغه ومات عن تسعةٍ وخمسين عاماً. ولمّا سُئلت إنْ كانت آسفة لأنه لم تُتَح لها الفرصة ثالثة للزواج من بورتون أطرقت ثم قالت: «يوماً ما سأحصل على هذه الفرصة».
■ ■ ■
كانت فيها ملامح شرقيّة. لعلّه الشَعر، بروزُ النهدين، مكانةُ الردفين. ومن الغابة، كثافةُ شعرِ الحاجبين، وانطباع البدائيّة الذي يوحيه شكلها. شرسة وذائبة. لبوءة وجارية. تناديك متوسّلة: «امْسِكْني!»، ولا تُمْسَك، رغم استسلامها. «امْلكْني!»، ولا تُمْلَك، رغم التصاقها. جسدٌ مُنْوَهب ومحروم من سيّده. جسدٌ بضّ وعديم الجذور. امرأةٌ وليمة وتائهة فوق أجساد الأزواج والعشّاق وجماهير الملايين. تمشي مُلَولحة بذراعيها كمَن يرفّ بين الأمواج. جموحٌ وغوى، مُهْرة تحتقر مَن يدلّلها ولا تحتمل الحياة بدونه. صوّان وجلنار، موجتان تتعاكسان وتتحايران في روح واحدة. وستُختصر سيرتها بصورة لوجهها.
■ ■ ■
كلّ ما في الأمر وجه. كلّ ما في الأمر ذاكرةٌ لوجه. الصور المعلّقة على الحيطان هي هي نحن لا نحن الأحياء والأموات. في سنيها الأخيرة خانها وجهها. صار وجهَ لوحةِ دوريان غراي. استحقّه الزمن. خانها وجهها بعدما تعب من خيانة الذين توهّموا القبض عليه. لكنّه نجا هناك في مومياء الصورة، في حياة الفيلم الأبديّة، حيث لا نهاية للحبّ ولا للسحر بل للشريط. لقد عادت الممثّلة إلى النبع وبقي لنا أفضل ما فيها، الجزء الذي لا يواريه تراب ولا تبتلعه سماء. وسيُنسى سقوطها في الشيخوخة وتنحفر صورة وجه الصبيّة في العيون، لأنّ الجسد هو الذي يُنسى وليس الوجه. سيُنسى صراخ الهستيريا وسمّ اللؤم. سيتجمّد وجهها في أعلى الرؤى كمقدَّمِ تمثالٍ حيّ، فوق سطوح الأَعمار، أيقونة وثنيّة تنضح بسحرٍ يتجاوزها، كما تجاوزت صورةُ الجوكوندا صاحبتها الموناليزا. ولن يكون لعنصرَي الحركة والصوت السينمائيّين فضلٌ كبيرٌ على إدامةِ ذكرى إليزابيت تايلور، لأنّ ديمومتها، حتّى في صميم حيويّة التمثيل، مستمدّة من رَصْد عينيها لا من صخب وحكاية. لا يستقرّ في الذاكرة غير السكون. سكونُ الوجهِ فجرُ الخليقة. سكونُ الوجهِ الغامر جمرَ روحه والمُرسل نداء عينيه. ثباتُ النظرة التي تُعرّيك وتكسوك، وفق الحاجة. الوجه! الوجه! امتلاءُ أفق الجبين بفراغ الصفاء، بشموس الأصيل وكواكب البحيرة، جبين يتساقط منه على جفوننا الحلم تلو الحلم.
هل كان لها جسد؟ جسد جدّاً، لكنّه، على أنوثته، كأن يَتْبع قيادة الوجه كتبعيّة النهار للشمس.
وجهها هاجس.
وجهٌ كهذا هاجس. ولا يعيش فقط في ذاكرة أشخاص بل في ذاكرات الأمكنة، تضمّه إلى قلبها الجبال والأنهار والغابات والشوارع والأصداء والمقاهي والمقاعد والأجواء كما وحدها الطبيعة والأشياء تعرف أن تضمّ، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن كلّ ما يجهله الإنسان.
■ ■ ■
يحتفظ الوجهُ بغموضه وتَجدّده مستعيناً بأكاذيب خيالنا. للذاكرة خيالٌ أعمق من المخيّلة، أخْدَعُ وأبدع. وللذاكرة الواقعيّة خَزْنة خَلْفيّة انقلابيّة، تُعيد الإنتاج بريشةِ ليوناردو ونوطات موزار وبيتهوفن وقلم شكسبير وإلهام هوغو وانبجاسات بودلير. لا أحد يعرف ماذا يدبّر الشاعر الّلابِدُ في كلٍّ منّا، وكيف يُتمّم الخلائق. الثأرُ لا يؤخذ مباشرةً بل وراءَ ستار الذاكرة.
■ ■ ■
هذه السلالة من النساء يستطيع المرءُ أن يتميّزها من دفئها لأنه دفءٌ متقلّب، ومن غموضها لأنّه غموضُ الخائف من حنانه، ومن رؤيتها إلى الناس والأشياء «عبر ستار من موج البحر» كما تقول أناييس نين. إذا نظرتَ إلى عينيها لمستَ الكثير من روحها، لكنّك تظلّ عاجزاً عن سبر لغز أعماقها. سرعان ما تلتقط هي أدنى انفعالاتك ولكنّها تقمع انفعالاتها. يعطيك وجهُها أمان الشفافيّة فتحسبُ طيبتها كتاباً مفتوحاً، إلّا أنّه كتب لا كتاب وجميعها مغلقة، وكلّما اجتهدتْ للإيحاء بالشفافية، وحتّى لو كان اجتهاداً صادقاً، لاذت منها الشفافية بطبقة نفسيّة سفلى أكثف ضباباً وأضمن حمايةً للمُخبّأ.
■ ■ ■
اعبروا! اعبروا! كلّ الأشياء تَعْبر! تقول الريح.
... إلّا الوجوه التي نهاجر إليها، يا ريح، الوجوه التي خطفتْ عقولنا وكَتَبت علينا أن نظلّ نطوف بها كاليتامى والجياع لنطرح عليها الأسئلة ونرفض الأجوبة.
الأجوبة لا ترحم. الأسئلة لكي يدوم التأجيل. نحن نُحبّ أيّتها الريح ولا نريد الحقيقة.
الوجوه، الوجوه الظالمة بكمالها العابر، الوجوه التي ليست لنا وتحتلّنا، العروش التي نصطنعها نحن عبيد السراب، الوجوه الضاحكة الجارحة، المنعتقة الآسرة، وجوهُ العذوبةِ الكاسرة، هذه الوجوه التي نموت وفي قلوبنا منها غصّة الهزيمة ودمعة الغفران، نتمرّد على كلّ شيء ولا نستطيع التحرّر منها، وأنتِ لا تستطيعين شيئاً أيّتها الريح!...