الحياة مزحة. صحيح أنّها قد تكون ثقيلة أحياناً، إلا أنها تظلّ دوماً فرصةً للابتهاج من دون تكلّف. تلك هي الخلاصة التي تفرض نفسها أمام محمود مبسوط. خلاصة تأتي مصحوبةً بابتسامة هانئة مشبعة بالحنين إلى أيام «الزمن الجميل». هو فعلاً اسم على مسمّى. باستثناء الملفّات المفصلية التي يغار عليها، وأوّلها ملف تفعيل الحقوق النقابية للفنانين، وقوانين الرعاية الصحية، وغيرها من القوانين التي لم تقرّها بعد وزارة الثقافة، تبدو الحياة بسيطة بالنسبة إلى الممثل اللبناني المعروف. مجرد مزحة، تحاكي بهزليتها على أرض الواقع شقلبات ممثلي «الكوميديا ديلارتي» على الخشبة. هكذا، يظل محمود مبسوط مبسوطاً. يروي بحسرة كيف يدور هو وصديق عمره الزغلول (فؤاد حسن) يجمعان التبرعات لممثلي النقابة المسنين ممن يحتاجون إلى الدواء، ويرجونا أن نعلن ذلك الإعلان في الجريدة. إلا أنّه سرعان ما يخرجنا من دائر الحسرة بطرائفه عن «الضروبة» التي ينزلها بزميله شكري (صلاح صبح). لا تفارق الضحكة شفتي ذلك الرجل، ولا الدعابة حديثه.
مواليد طرابلس عام 1941. فهمان، كما سيصبح اسمه لاحقاً، يروي متندراً كيف رسب في الصف الأول ابتدائي لستّ مرات. كان قد أتم الثانية عشرة حين أرسل مدير «ثانوية الحدادين» بطلب والده راجياً منه أن يسلّم بالأمر الواقع: «الولد مش خرج علم» قال له.
كانت تلك المرة الأولى ـــــ لكن ليست الأخيرة ـــــ التي يشرد فيها الولد المشاغب عن الخط الذي أعدَّ له. قضى حياته مواظباً على ممارسة هوايته المفضلة في الخروج عن النص. ليس فقط في ارتجالاته التي عدّتها إدارة «تلفزيون لبنان» ـــــ لاحقاً ـــــ بمثابة «دعاية» غير مباشرة على الهواء، ففرضت عليه غرامة مالية (حسم أسبوعي عمل أي نحو 30 ليرة لبنانيّة آنذاك). بل قبل ذلك بكثير. تحديداً، يوم عرف والده أنه ألّف مع أصدقائه في «كشاف الجراح»، فرقة «درابزين آغا» التي تقدم الاسكتشات، فـ«أكلها قتلة محترمة». لم يشفع له يومذاك أن فرقته لاقت رواجاً جعلها تصبح الفرقة التي تستعين بها «مدرسة الفرير» في طرابلس خلال مهرجاناتها.
صار الوالد يقفل عليه باب الغرفة مانعاً إيّاه من الخروج لأنّ «الفن حرام» في نظره. هكذا لم يبقَ للشاب المشاغب سوى الهروب، عبر حبل ربطه إلى الشرفة. نوادر «أبو الفهم» وخروجه المتكرر عن النص لا ينتهيان. حين أتم السادسة عشرة، أرسله والده إلى أفريقيا حيث يعمل أخواه في الخياطة. عمل معهما نهاراً، لكن في الليل خلال جلسات لعبة «الطرنيب» التي يبرع بها، حاز دعم السمراني، «زعيم» الجالية العربية في غانا.
هذا الأخير دعمه بعدما اهتدى، في المراقص الليلية، إلى مجموعة من الهواة ألّف معهم فرقة تعرض مسرحيات في بيوت اللبنانيين. وعاد محمود لينال نصيبه من الضرب، هذه المرة على يد أخويه. سجناه في المنزل، لكنّ «الزعيم» تدخّل وطلب منهما، تحت وطأة التهديد، ألا يعترضا طريق الفنان الصاعد. لم يبق أمام الأخوين، والحالة تلك، إلا أن يعيدا هذه المصيبة من حيث أتت، إلى لبنان.
كان ذلك أواخر الخمسينيات، ولما تمض سوى أشهر على افتتاح «القناة 7» (شركة التلفزيون اللبنانية). ابن مدينته «أبو سليم» (صلاح تيزاني)، كان قد بدأ يقدم مع فرقته برنامجاً على الأثير. أما «القناة 11» (شركة تلفزيون لبنان والمشرق) فكانت تستعدّ لبدء البث. المحطتان ستندمجان لاحقاً، كما هو معروف، لتكوّنا معاً «تلفزيون لبنان». قدم محمود مبسوط نفسه لأحد مؤسسي المحطة الفتية، عصام حموي، فقبله فوراً، وكان العصر الذهبي للتلفزيون قد بدأ لتوّه. التحق «أبو الفهم» بالرعيل المؤسس، إلى جانب شوشو ومحمد شامل والياس رزق وأنطوان ريمي وجان كلود بولس وعز الدين صبح وكثيرين غيرهم من ممثلين ومخرجين ومنتجين وإداريين صنعوا مجد التلفزيون اللبناني في سنواته الذهبية. في عام 1962، انتقل صديقنا من «القناة 11» إلى «القناة 7»، بناءً على رغبة مديري المحطّة الذين توقعوا لهذا الممثّل الشعبي مزيداً من النجاح، إذا انضمّ إلى فرقة «أبو سليم الطبل». هكذا كان.. وصار اسمه «فهمان».
بدأ العمل مع الفرقة الشهيرة التي اقترن بها نجاحه، على مسلسل يتغير موضوعه وعنوانه كل 13 حلقة: «شي ما بيتصدق»، و«سوا سوا»، و«الأبواب السبعة»، و«اضحك مع التلفزيون»، و«اسأل عن المرأة». كان الأداء يرتكز على الارتجال. أبو سليم يضع الخطوط العريضة. أما الممثلون، فيتولون مهمّة نحت شخصياتهم، وتضخيم عيوبها كالبخل (شكري) والحماقة (أسعد) والاحتيال (فهمان) إلى جانب تطوير الحبكة الطريفة. أسلوب ساهم بنحو أساسي في شهرة هؤلاء الممثلين لدى أجيال متلاحقة، بكنيتهم لا بأسمائهم الحقيقية.
كان الأسلوب الكاريكاتوري الأشبه بالمسرح الهزلي سمة ذلك العصر، يناسب تماماً ذائقة مشاهدين يكتشفون للتو تلك العلبة المضيئة في أقاصي لبنان: «درباس، وزغلول، ومشكاح، وفريال كريم، وسعدية وآخرون، كنّا مثل عائلة في تلفزيون لبنان»، يقول فهمان بعد 40 عاماً على العطاء المشترك الذي صهرهم. لكنّه يأسف لكون «هذا الفنّ الشعبي لم يعد يغري اليوم مديري التلفزيونات. همّهم بات عرض برامج السياسة والرقص». نخاله شفي من ذلك التاريخ، فإذا به يستحضره بنوع من الإحساس بالغبن، آسفاً لكون أصحاب القرار تعاطوا بجحود معه ومع ومجايليه من نجوم الزمن الجميل.
لا يزال إلى اليوم يقابل بعض الزملاء القدماء. في ٢٠٠١، عاد فلمّ بعض الشمل، إذ أسّس فرقة «طقّش فقّش» التي تحيي الحفلات والمهرجانات والأعراس، مع شكري، وزغلول، وعلا عيد (وردة)، وفاتن طويل (سعدية). لكن البزنس إلى تراجع، يستدرك، وذلك بسبب «عباس وجورج ومحمود»، كما يقول في معرض التلميح الى آفة الطائفية، وكل أشكال التمييز، و«العنصرية السياسية» التي قسمت اللبنانيين إلى خنادق.
إلى جانب عمله في تلفزيون لبنان، ضمن فرقة أبو سليم، عمل فهمان مع الرحابنة في مسلسل «من يوم ليوم» (1972) بطولة هدى، ومثل في فيلمي «سفربرلك» (1967) و«بنت الحارس» (1971). ولا يسعه أن يتذكّر كل المسرحيّات التي قدّمها ذلك العصر، فعددها يربو على الـ25، معظمها مع فرقة «أبو سليم». خاض أيضاً بعض التجارب مع فرق أخرى مثل «عيلة أبو المجد» مع محمد شامل، ومثّل في 33 فيلماً. بين المخرجين البارزين الذين عمل فهمان تحت إدارتهم، يتذكّر محمد سلمان، وسمير الغصيني، وبركات، وصولاً إلى عاطف الطيب، وزياد الدويري، وهاني طمبا، وفيليب عرقتنجي، وسمير حبشي، وبرهان علوية.
تفاجأ حين تسمع فهمان يقول اليوم إنّه يفضّل الخشبة على الاستديو، هو الذي صنعت مجدَه الشاشة الصغيرة، وكان من أعمدة العصر الذهبي لـ«تلفزيون لبنان»: في المسرح، يشرح لنا، «يكون الممثل على تماس مباشر مع الجمهور. أما في التلفزيون، فقد تؤدي مشهداً رائعاً لكنه لن يعجب المخرج بسبب عيب تقني فيجبرك على أن تعيده مثلاً».
لكنّ ليالي «تلفزيون لبنان» يبقى لها مذاق خاص في الذاكرة التي يعيش فهمان على استعادتها كل يوم... مثلما يستحضر جيل كامل من اللبنانيين سنوات التلفزيون الذهبية ومرحلة البراءة و«الزمن الجميل» من خلال فهمان ومجايليه في الكوميديا الشعبيّة والاجتماعيّة.



5 تواريخ

1941
الولادة في طرابلس، شمال لبنان

1955
أسس «درابزين آغا» مع زملائه في «كشاف الجراح»، وبعد عامين هرّبه والده إلى غانا لينسى الفنّ، فأطلق هناك فرقة جديدة، قبل أن يعود مطروداً من أفريقيا

1962
ولدت شخصيّة فهمان التي تلازمه إلى اليوم، بعد التحاقه بفرقة أبو سليم الطبل في «القناة 7»

2001
أسس فرقته الخاصة «طقش فقش» التي ما زالت تحيي الأعراس والاحتفالات إلى اليوم

2011
ينتظر استكمال مسلسل «جوكرين وقص سبيتي» الذي صوّر منه 3 حلقات مع المخرج رامي حداد