الصحيفة اسمها «الكلب». نخبة من المحظوظين يعرفونها. صحيفة ساخرة، أسّسها الكاتب السوري الراحل صدقي إسماعيل في خمسينيات القرن الماضي، وصدرت من دون ترخيص أو امتياز. كانت تُكتب بخط اليد، وتُوزّع على الأصدقاء، وتحمل اسم «الكلب». ثم ورثها عنه غازي أبو عقل.الضابط المتقاعد وجد في إتمام مسيرة معلّمه فرصة لإعادة الاعتبار إلى صحافة غائبة أو مغيّبة. يقول متحمساً: «هذا النوع من الصحافة يستهويني منذ أمد طويل، لأنّه دليل عافية في مجتمع لا يتقبّل الرأي الآخر، ويفتقد هامش الحرية». ويضرب أمثلة على وجود عشرات الصحف الساخرة في العالم مثل «الكانار أنشينيه» في باريس، و«التمساح» في موسكو، و«القنفذ» في بلغاريا. ويرى في Le Canard enchaîné الباريسية نموذجاً أصيلاً للصحافة المؤثرة. ولا يحبذ غازي أبو عقل أن نضفي أهمية خاصة على مساهمته في استمرار صدور «الكلب». يقول مقاطعاً: «أنا مجرد محرّر تحت التمرين، وسأبقى كذلك».
ثم يعود مجدداً إلى سيرة مؤسسها: «كان صدقي إسماعيل قد بدأ أولاً بكتابة مقطوعات شعرية ساخرة، جمعها تحت عنوان «فلتات المنشار»، ثم «الجسر»، وصولاً إلى «الكلب»، بمشاركة أصدقاء كانوا يقطنون معاً خلال دراستهم الجامعية في دمشق، أمثال أحمد إبراهيم العبد الله، وسليمان العيسى، ويوسف شقرا، وحسيب كيالي، وآخرين. ولعل السبب الأساسي لصدور هذه الصحيفة هو هجاء فترة الدكتاتورية التي افتتحها الضابط الانقلابي حسني الزعيم، مروراً بحكومة تاج الدين الحسني، وصولاً إلى حقبة جمال عبد الناصر، وتسلّم حزب البعث السلطة في سوريا. ثم أكملت طريقها من دون انتظام، وتبعاً للظروف وتطوّرات الأحداث».
يقلّب صفحات المجلد الذي ضم الأعداد المتوافرة من الصحيفة، وقد صدر عام 1983 بإشراف الشاعر سليمان العيسى الذي كان قد أصدر في فترة لاحقة صحيفة مشابهة سمّاها «ابن الكلب». ها هو يختار ما كُتب في إعلان العدد «اشتروا شفرة الحلاقة ناسيت، فقد طالت اللحى في البلاد»، إضافةً إلى مقطوعات تسخر من أميركا، وحكومات الاستقلال، واجتماعات الجامعة العربية، كهذه المقطوعة في هجاء أميركا: «كم حيّرتني أمريكا... فمن/ سلّطها فوق رؤوس العباد؟/ مجموعة من شركات لها/ تغلغلت في كل سهل وواد/ من شرق فرموزا إلى شاطئ الشيلي/ وما بينها من بلاد».
مع رحيل صدقي إسماعيل (1972) احتجبت الصحيفة، لكن غازي أبو عقل، سعى إلى بعثها منفرداً بوصفها «شهادة على عصر مضطرب»، كما طبع 100 نسخة من أحد أعدادها في مطبعة «التوجيه المعنوي» خلال إدارته هذه المؤسسة العسكرية (1969)، هديةً إلى مؤسّسها. وخصص صفحة ساخرة في مجلة «جيش الشعب»، بعنوان «المنشار»، كان يكتب فيها بمشاركة ممدوح عدوان، وغسان الرفاعي، ويوسف جمعة، وآخرين، بأسماء مستعارة.
لكن ما الذي أتى بالضابط في سرية الدبابات إلى هذا العالم؟ يجيب: «كان والدي عاملاً في مطبعة، ثم مراسلاً لصحيفة «القبس» الدمشقية، وصديقاً في «الكُتّاب» للشاعر بدوي الجبل. هكذا وجدتُ نفسي وسط بيت يعج بالكتب والصحف، كما كان لإقامتي في باريس، لمدة ثلاث سنوات، وإجادتي اللغة الفرنسية، تأثير واضح على توجهاتي اللاحقة، وخصوصاً في حقل الترجمة».
اليوم يُصدر أبو عقل الصحيفة وفق أهوائه الشخصية، من دون أن يتخلى عن «اللوغو» الأصلي بخط مؤسسها الأول، ويوزعها على الأصدقاء، في نُسخ محدودة، مستفيداً من التطورات التقنية في النسخ والطباعة. نسأله: ألم تتعرّض «الكلب» للمصادرة يوماً؟ «لا، لسبب بسيط، وهو عدم توزيعها في المكتبات، كما أنها في نسختها الجديدة لا تتعرّض للسياسة تعرّضاً مباشراً». ويوضح موقفه: «أكتفي بالسخرية من وقائع وأحداث أدبية وثقافية غالباً، إذ إنّ الصحافة المحلية تعج بالمفارقات التي تستحق وقفة ساخرة، ورغم ذلك، لا أجد من يحتمل السخرية، فما بالك بالسياسيين؟».
نحن إذاً، إزاء فكاهة متفلّتة من المعايير الصارمة، والتجهم، والجديّة. صحافة يفتقدها الشارع السوري، منذ الستينيات، إثر قرار حكومي ألغى تراخيص الصحف الخاصة. وحين سُمح مجدداً بالترخيص لصحف جديدة، ظهرت صحيفة «الدومري» لرسام الكاريكاتور علي فرزات، لكنها لم تعش طويلاً، وأُغلقت بعد سنة من صدورها بأمر من الحكومة.
في المربع الصغير الذي تتنفس فيه «الكلب» هواء الهجاء الثقافي، يقول صاحبها الجديد: «لا أستثني أحداً. فقد تناولت الصحيفة في بعض أعدادها مواقف شخصيات أدبية مثل نزار قباني، وأدونيس، وسليمان العيسى، وعلي الجندي، ونبيل سليمان، وآخرين. «الكلب»، كما قال صدقي إسماعيل، هو «الكائن الوحيد الذي يحق له أن ينبح، من دون أن يلزمه أحد بشيء». ويستدرك أبو عقل: «تناسى صدقي أنّ الكلب كثيراً ما يتلقى الركل والقذف بالحجارة إذا نبح في الوقت والمكان غير المناسبين. وكثيراً ما يكف عن النباح ويصمت إيثاراً للسلامة».
لا يجد صديقنا صعوبة في التقاط موضوعات صحيفته، فحيثما التفت يقع على «ضحية» تستدعي «النباح»، وإذا بجلسة في مقهى، أو قراءة مقال، أو نص أدبي، توقظ فيه حس السخرية اللاذعة. يبدو غير عابئ بالفاتورة التي سيدفعها لاحقاً، بسبب إيمانه العميق بأن الهجاء ملح الكلام، أو كما يقول عنه الكاتب الساخر خطيب بدلة، أحد محرري الصحيفة «ديموقراطي إلى حد أنه يطالبك بأن تحتفظ للآخر بحرية السباب عليك وعلى أدبك، وساخر بطريقة يصعب وصفها».
خارج اهتماماته في الكتابة الساخرة، التفت غازي أبو عقل إلى الترجمة. لقاؤه جان جينيه في دمشق (1971)، لبضعة أيام في طريق عودته من مخيمات الفدائيين في الأردن، قاده إلى ترجمة نصوص عدة لهذا الكاتب المارق، ظهرت في كتاب «شعرية التمرّد» بمشاركة مترجمين آخرين. وينوي حاليّاً جمع نصوص أخرى لصاحب «أسير عاشق»، وإصدارها في كتاب مستقل... إضافةً إلى ترجمته مجموعة من الكتب المرجعية مثل «نظام النهب العالمي»، و«العلمانية على محك الأصوليات اليهودية والمسيحية والإسلامية» لكارولين فوريست وفياميتا فينر، كما ينكبّ حالياً على ترجمة أعمال الروائي الفرنسي لوي فردينان سيلين (1894 ـــــ 1961)، وقد صدر منها العام الماضي جزء أول متعلق بسيرة هذا الكاتب الكبير.



5 تواريخ

1933
الولادة في اللاذقية
(سوريا)

1952
انتسب إلى الكلية الحربية

1966
إصدار مجلة «جيش الشعب»

1972
ترأس تحرير الطبعة الجديدة من صحيفة «الكلب» بعد وفاة مؤسسها صدقي إسماعيل

2011
يعكف على ترجمة أعمال الروائي الفرنسي لوي فردينان سيلين