تعمل نورا مراد في منطقة مسرحية شائكة. اختيارها المسرح الحركي وضعها في مهبّ أسئلة صعبة عن منظومة الجسد العربي الراقص. هذا الجسد المكبّل بألف قيد وقيد، في محصلة لموروث طويل من القمع. حضورها عرض «مسافر بلا حراك» لفرقة فيليب جانتي الفرنسية في فضاء المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، أثناء دراستها التمثيل في مطلع التسعينيات، فكك طلاسم أسئلة مبهمة وحيرة طويلة كانت تواجهها حينذاك، إذ لطالما كانت تحلم بنوع مسرحي يجمع فنون الأداء في فضاء واحد. وها هي الفكرة تلمع في رأسها أخيراً: أن تتجه نهائياً إلى هذا الحقل وتحرث في أرض بكر.اشتغالها مع مدربي الحركة والرقص في المعهد الدمشقي مدة ثلاث سنوات مهّد الطريق أمامها لاكتشاف كنوز الجسد المخبأة. الجسد، كما تقول، ليس صندوقاً للمشاعر فحسب، بل حالة متكاملة تسيطر عليها آلية التفكير أولاً. محطتها الثانية كانت في باريس حيث درست المسرح الحركي والرقص المعاصر. في عاصمة الأنوار، تعلّمت مفاهيم جديدة عن جسدها: «المسألة لا تتعلق بموروث المحرمات الشرقية بقدر ما هي مواجهة مع الذات، ومدى قدرتنا على اختبار الآخر، ونبش ما في الداخل بأقصى طاقتنا على المكاشفة». الحقبة الباريسية أتاحت لها أيضاً أن تعيد بناء شخصيتها على نحوٍ آخر، خصوصاً في ما يتعلق بمفهوم المواطنة والتاريخ السياسي لبلادها، هي التي ولدت ونشأت في موسكو لوالدين كانا يدرسان السينما في الاتحاد السوفياتي.
هكذا داومت على مكتبة معهد العالم العربي في باريس، وانكبّت على قراءة مراجع لم تكن متوافرة قبلاً بين يديها. تمرينات الرقص، والقراءة الموازية، أجابا عن أسئلة كانت معلّقة في ذهنها. هكذا عادت إلى دمشق، في أواخر التسعينيات، لتؤسس أول تجمع فني مستقل للمسرح الحركي، اختارت له اسم «ليش». فكان عرض «بعد كل هالوقت» باكورة تجربتها في هذا المجال: «كنت خائفة ومرتبكة في خوض تجربة جديدة على المتلقي السوري، وقد قررتُ في ضوء نتائج هذا العرض، أن أستمر، أو أتوقف، لكن الرسالة أستُقبلت بترحاب» تقول.
مضى نحو عشر سنوات على إطلاق هذه الفرقة، وضعتها أمام اختبارات متعددة، انتهت إلى مشروع نوعي في مقاربة فنون الجسد، حمل اسم «هويات». تستعيد نورا مراد مراحل مغامرتها مؤكدة معنى الجسد العربي، وتتساءل: «هل هناك أبجدية خاصة لهذا الجسد، على غرار الـ«كاتاكالي» الهندي مثلاً؟».
كان عليها أن تبني علاقة مختلفة مع جسد الراقص، هذا الجسد المحكوم بمنظومة قيم ليس من السهل تحطيمها، بقصد التوغل إلى ما هو داخلي وحميمي، اعتماداً على فكرة جوهرية ملخصها أنّ «الجسد لا يحتمل الكذب». محاولة تحطيم الأغلال الداخلية للجسد كانت أمراً شاقاً، لكنها عبر التدريبات الصارمة، والحفر في حميميات الجسد الراقص، تمكّنت من نزع الحراشف المتراكمة عن أجساد الراقصين، خصوصاً الهواة منهم: «لجأت إلى الهواة، على أساس أن أغلب الراقصين المحترفين متشبثون بنظريات كلاسيكية لمعنى الرقص التعبيري، تتعلق بجماليات شكلية في الحركة، فيما كنت أسعى إلى كسر النواميس المستقرة للجسد». وتشرح فكرتها مؤكدة «الجسد العربي خشبي... هناك مسافة واضحة تشبه جداراً صلباً بين حركة الأعضاء، ومنظومة المشاعر. جسد منفعل، وليس فاعلاً، نتيجة فصام عميق بين ما يؤمن به وما يفعله».
في أعمالها اللاحقة مثل «إذا انتبهوا ماتوا»، و«ألف مبروك»، اشتغلت على الشعائر والطقوس المتعلّقة بالموت والخصب، لاكتشاف لغة الجسد في التعبير عن الألم واللذة، بعيداً عن المنصة التقليدية، فاختارت فضاءات بديلة، مثل «الرواق» الذي كان خزّاناً للمياه، وسراديب قلعة دمشق، وغاليري مصطفى علي في محاولة للوصول إلى الآخر من خلال مفردات حيوية في التلقي.
فسيفساء طقوس شرقية، وموسيقى إلكترونية، ومولوية، ورقص شرقي، كل هذه العناصر تجتمع في فضاء واحد لتطويع جسد مقموع تاريخياً، وتأصيل فرجة عنوانها التمرّد على ثنائية تتحكم بالجسد العربي. تنفي نورا مراد وجود نبرة استشراقية في أعمالها، موضحة أنّ ما تقوم به يدخل في صلب مشروعها عن الهوية: «أسعى إلى استنطاق الجسد من جهة، واستنفار حواس المتلقي من جهة ثانية، بوصفه شريكاً في العرض، وأن يتخلى الجسد عن حجابه الداخلي» تقول.
نسألها عن علاقتها الشخصية بجسدها، والنبرة الذكورية في مظهرها الخارجي؟ فتجيب من دون تردد «أعترف بذكورية ما في جسدي، فقد وجدت نفسي وحيدة إثر رحيل والدي (الناقد السينمائي البارز سعيد مراد، 1943 ــ 1988). وكان عليّ مواجهة هذا الظرف الطارئ، لكنني أعرف متى أستعيد أنوثتي». وتشرح: «تربيتي ساعدتني على الجرأة، وأن أواجه أسئلة جسدي، مهما كانت عصية، وليست لدي مشكلة إن أخطأت. أراقب جسدي باستمرار كي أحرّره من عيوبه».
لا تتوقف مشاريع هذه الكوريغراف الشابة عند التصميم الحركي للعروض، بل تنكبّ على كتابة مشروع نظري عن الجسد والهوية باقتراح قاموس للمفردات العربية، من أجل أبجدية خاصة للرقص العربي، وتأريخ أبرز محطاته وتجاربه، والمشكلات التي تواجه العاملين في هذا الحقل، وذلك بسبب النقص الفادح في مرجعياته: «عموماً، مشروع «هويات» يطرح أسئلة أكثر مما لديه إجابات. وقد أكتشف خلال البحث أن الجسد العربي لا يختلف عن سواه».
من جهة أخرى، تفكّر نورا مراد في تأسيس مركز مستقل باسم «جسد للبحث والتدريب»، يشتمل على إقامة دورات تدريبية، ومكتبة، وأرشيف للتجارب العالمية في الرقص، لاعتقادها بأن «المعهد العالي للرقص» في سوريا يفتقر إلى أسلوب التعليم المعاصر، باعتماده على الحركة الخارجية للجسد الراقص، وتالياً، ضرورة تطوير المناهج التعليمية، وفقاً لمقترحات مغايرة، تلغي المنطقة الملتبسة في مصطلح الرقص المعاصر والتجريب. وحين نسألها عن تجارب عربية ترى أنها رديفة لمنهجها في العمل، تجد في تجربة نوال اسكندراني خصوصية لافتة كمصممة حركية، وكذلك تجربة رجاء بن عمار، وذلك من خلال استخدام الجسد مسرحياً... وبمعنى آخر اعتماد البنية الدرامية في العرض المسرحي.



5 تواريخ

1972
الولادة في موسكو

1991
الانتساب إلى المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق

1995
دراسة المسرح الحركي في باريس

1999
تأسيس فرقة «ليش» وتقديم عرض «بعد كل هالوقت»

2011
«الجسد والهوية» كتاب قيد الإنجاز