على سفوح القلمون حيث تمتدّ مساحات شاسعة من كروم العنب، ولد الكاتب والمعارض السوري فايز سارة. في قرية جيرود التي احترفت صناعة الفرح، عاش سنواته الأولى. بعد رحلة مشوّقة مع الحياة، قضى جزءاً ليس قليلاً منها في المعتقلات، لم يعد سارة يتذكّر الشيء الكثير عن خصوبة قريته وخضرتها وجمالها. فقد حولتها السنون صحراء قاحلة، تعانق جبالاً جرداء. لم يعد يتذكّر طقوس الحرية والانفتاح التي كان يعيشها مجتمع القرية، بعدما تحوّل أهلها اليوم إلى إسلاميين، يتجهون شيئاً فشيئاً نحو التشدّد. مع ذلك، لا تزال بعض الصور الريفية راسخة في ذهنه، وخصوصاً صور النساء بزيهنّ التقليدي، وهنّ يملأن المياه من بئر تستمدّ ماءها من قناة مياه رومانية قديمة. لا ينسى التكافل الاجتماعي الذي كان يسود القرية، والعلاقات الحميمة بين الأهالي التي تعكس تماسك هذا المجتمع وصدقه.
ما زالت ترافق سارة حتى اليوم المشاعر ذاتها التي رافقته عندما كان طفلاً. منذ أن فقد أباه في سنّ مبكرة، ليعيش يتيماً من دون سند أو ملجأ، يساوره شعورٌ قوي بالغربة، حتى بين أهله. ترسّخ هذا الشعور بعد مغادرته القرية مع عائلته إلى المدينة، بحثاً عن فرص عمل أفضل. فوالده لم يكن يملك أرضاً يزرعها، بل كان بنّاءً بسيطاً لم يترك لعائلته إلا الفقر والشقاء. لهذا، لم تكن بداية حياته المتعثرة تشبه طفولة أغلب الأطفال آنذاك. «قد يكون ذلك أكثر ما أثّر على مسيرتي في ما بعد، وقد تكون غالبية خياراتي في الحياة قد ارتبطت بنحو أو بآخر بذاكرة طفولتي».
تلك التجربة القاسية جعلت فايز سارة شخصاً يشعر بالمسؤولية أكثر من غيره. فقد تحمّل مسؤولية عائلته باكراً، لكونه كان معيلها الوحيد. لكنّ هوسه في القراءة كان أكبر من كل شيء. فقد كان يدّخر مصروفه الشخصي ليستأجر صحفاً ومجلات ودوريات من المكتبة، ويجلس على الرصيف حتى يفرغ من قراءتها، ويعود إلى المنزل. ومع تقدّمه في العمر، ازدادت رغبته في قراءة التاريخ والأدب والسير الشعبية. هكذا، انكبّ على أعمدة الأدب العربي، واستفاض في قراءة روّاد الأدب السوري، قبل أن يبحر في المؤلّفات السياسية. كلّ هذا أسهم في جعله مثقفاً شغوفاً بالمعرفة.
حَلِم بأن يصبح كاتباً معروفاً يوماً ما. وبالفعل، كانت له محاولات في كتابة القصة، لكنّها ظلّت حبيسة الأدراج. التحوّل الكبير في حياته، حملته هزيمة 1967. حفرت النكسة عميقاً في وجدانه، فأصيب بلوثة السياسة. «كنت كمعظم أبناء جيلي المتأثرين بالهزيمة. وكانت هي السبب الحقيقي لانتقالي من الاهتمام بالسياسة إلى الانخراط في العمل السياسي، ثم التنظير في أعلى مستويات السياسة، وتفسيرها، ورسم حدودها».
دفعته اهتماماته إلى دراسة العلوم السياسة، فسافر إلى لبنان. لكنّ حالة الاضطراب التي كان يعيشها بسبب الانقلابات المتلاحقة في سوريا، جعلته يترك الجامعة ويعود إلى بلده، ليكون شاهداًَ على الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي هناك. بعدها، أسّس مع مجموعة من أصدقائه جماعة يسارية مستقلّة، كانت قريبة من خط الحزب الشيوعي العمالي المصري.
ومع مطلع السبعينيات، بدأ فايز سارة العمل الصحافي الذي ما زال يمارسه ويعيش منه حتى اليوم. في عام 1978، اعتقل بسبب نشاطه السياسي لمدة عامين. في المعتقل، تعرّف إلى مجموعة ناشطين صاروا أصدقاءه. لدى خروجه من السجن، بدأ التعاون مع صحف عربية، ومراكز أبحاث، واستفاد من علاقاته كثيراً. «كانت هذه الفترة المرحلة الذهبية لنتاجي، وقد عملت بما يليق بها. أذكر أنّني كنت أعمل لعشرين ساعة متواصلة تلك الأيام». بعدها، أصدر مجموعة من الكتب، منها ثلاثة عن الجماعات السياسية في سوريا وتونس والمغرب، وواحد عن الجماعات والتنظيمات الإسلامية في المغرب العربي، وكتابان عن القضية الفلسطينية...
في أواخر الثمانينيات، استعاد المجتمع المدني في سوريا أنفاسه من جديد، بعدما أجهز النظام على كل أشكال الحراك الشعبي. لكن التحوّل الفعلي جاء مع غزو صدام حسين للكويت. يومها، تجرأ 35 مثقفاً سورياً على رأسهم فايز سارة على توقيع بيان يندِّد بمشاركة بلدهم في الحرب على نحو غير مباشر. حدث يُعَدّ اليوم أمراً عادياً، مع ما تعيشه سوريا من حراك شعبي واسع، وشيوع ظاهرة إصدار البيانات. لكن في تلك المرحلة، كان للبيان وزنه. بعدها، حوّل فايز سارة وزملاؤه مأتم المفكّر الراحل جمال الأتاسي إلى تظاهرة سلمية، في خطوة غير مسبوقة.
تلك الخطوات البسيطة كانت تؤسّس لمشروع يبحث عن سبل الخروج من حالة قمع المجتمع المدني. لهذا، جاءت فكرة تأسيس أصدقاء المجتمع المدني، ثم إحياء شبكة من اللجان الناشطة في ذاك الإطار. «كان الوعاء الذي أدى دوراً مركزياً في أهم التحولات السياسية التي شهدتها سوريا بعد تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم. يومها، اجتمع عدد من المثقفين وأصدروا البيان 99 ثم البيان 100 الذي عُدّ الوثيقة الأساسية لإحياء تلك اللجان».
بعد ذلك التطور، تعرض منسّقو الحراك للاعتقال، ومن بينهم عارف دليلة ووليد البني. وبعد فترة، توّج ذاك النضال بتحالف مجموعة من المثقفين والسياسيين السوريين، تحت راية «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي» الذي أُعلن أواخر 2005. وفي أواخر 2007، تأسس المجلس الوطني لإعلان دمشق، كهيئة عامة تضم ممثلين عن كل تلك الجماعات، وكان سارة أحد أعضاء المجلس. عام 2008، تجددت حملة الاعتقالات التي طاولت أعضاء المجلس، ونال سارة نصيبه من السجن حيث بقي سنتين ونصف سنة.
بعد بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا، كثّف سارة من ظهوره على المحطات الإعلامية التي وصفها النظام بالـ«متآمرة» عليه، فكان أن اعتقل في 10 نيسان (أبريل) الماضي لمدّة شهر ونصف شهر. «نزلت في فرع أمن كنتُ ضيفه الدائم عبر مسيرة حياتي، إما بسبب اعتقال أو تحقيق».
اليوم يؤرشف فايز سارة كل ما يحصل عليه من أشياء تخص سوريين تركوا أثراً، ليؤلف عنهم كتاباً موسوعياً. لكن كيف يعيش ما يجري اليوم في بلاده؟ بكثير من الحماسة والإيمان بمستقبل أفضل، يقول. الانتفاضة التي تشهدها سوريا اليوم، تؤكد أن «الشعب السوري اختار التغيير بنحو جدي وقاطع، وهذه العزيمة التي لا عودة عنها، أوصلت النظام إلى التصريح بأنّ الدستور على وشك التغيير، أي سيتغير الأساس الحقوقي والسياسي للدولة والمجتمع».
ويمضي فايز مؤكداً هذا المنعطف التاريخي، مؤكداً أن ما يجري سيغير موقع سوريا على الخريطة الإقليمية. بل إن السوريين يصنعون مكانتهم في العالم من خلال ما فعلوه. ويضيف مستدركاً: «لكن لا بد من ضمان أشكال مقبولة للتغيير، من دون التفكير في حلول ومنزلقات خطيرة، مثل حرب أهلية أو تدخّل خارجي. لهذا لا بدّ من إعطاء النظام فرصة كي يوجد حلولاً صحيحة للتغيير».
نودّع فايز سارة بعد جولة سريعة على محتويات مكتبته الغنية. ونخرج بانطباع إنساني قوي، تركه فينا الرجل الستيني المهذب. هذا المثقف والمناضل يلفت بهدوئه وسط العاصفة، وبدماثة خلقه، وحسّه الساخر. خفّة ظل آسرة، لعلّه السلاح الذي علّمته السنوات القاسية أن يشهره في مواجهة مسيرة صعبة ملؤها الشقاء والمطبات والتحديات الجميلة.



5 تواريخ


1950
الولادة في قرية جيرود في ريف دمشق

1978
انخراطه في السياسة واعتقاله

1985
أصدر كتابه الأول «الحركات والأحزاب السياسية في تونس»

2005
أطلق مع مجموعة
من زملائه «إعلان دمشق»

2011
يعمل حاليّاً على كتاب موسوعي
عن شخصيات بارزة في الذاكرة السوريّة المعاصرة