بعد تجربة غنيّة على الخشبة والشاشة معاً، انسحب طلحت حمدي بصمت من الساحة أمام هجمة رأس المال المتوحّش. كان الشاب المتحمّس قد دخل الفنّ، في زمن آخر، من باب الإذاعة، ورافق بدايات الدراما السوريّة، لتنطبع صورته في ذاكرة مشاهدي التلفزيون، خصوصاً في دور شوكت القناديلي. ثم دارت الأيّام، وإذا بالفنان الذي كان قاسماً مشتركاً بين معظم الأعمال الدرامية السورية في فترة نهوضها الأولى، يجد نفسه فجأة على الهامش... وفي أحسن الأحوال «ضيف شرف».
اليوم، نبرة الأسى في صوته لا تنجح في إخفاء الخيبة المريرة من جيل جديد تسلّم الأمانة، ثم أدار ظهره للآباء. لا يستغرب طلحت حمدي هذا الجحود، بل يراه طبيعياً من مخرجين أتوا المهنة من باب «البوفيه»، وفرقة الدبكة، حتى إنّ أحدهم وصف جيله مرة قائلاً: «أنتم تشبهون سيارة موديل الخمسينيات».
يستعيد بداياته من مشهد لم يفارقه إلى اليوم. كان صبياًَ يعبر كل الطريق من «ثانوية الحكمة» مروراً بمبنى الإذاعة السورية في شارع النصر، ليتوقف طويلاً أمام «مقهى بن عازار» المتاخم لمبنى الإذاعة: «هناك كنت أشاهد رواد الفن السوري في الخمسينيات، مثل حكمت محسن، وتيسير السعدي، وفهد كعيكاتي، هؤلاء كانوا أساتذتي في التمثيل». المسرح المدرسي قاده إلى كواليس «فرقة زهير الشوا» المسرحية، إذ أدى دور طفل في مسرحية «في بيوت الناس»، وسوف يحفظ نص المسرحية كاملاً، وينقله إلى خشبة مسرح «دار الحكمة».
أستاذ مادة الموسيقى في المدرسة صميم الشريف أدخله مبنى الإذاعة ليؤدي دور شوبان في برنامج «أساطين النغم». أثناء خروجه من الاستديو، لمح في غرفة مجاورة حكمت محسن وتيسير السعدي يشربان القهوة، فاقتحم مجلسهما قائلاً «أنا ممثل»... قرأ حكمت محسن المعروف باسم «أبو رشدي» فنجانه، وتوقّع له «مستقبلاً مشرقاً»: «طلب مني إكمال دراستي والحصول على البكالوريا أولاً، ووعدني بأنّه سيأخذ بيدي. وبعد أشهر، وجدت نفسي كومبارساً في تمثيلياته الإذاعية التي كان المستمعون ينتظرونها بشغف. فقد كان هذا الممثل النادر أفضل من كتب عن الوجع الشعبي إلى اليوم».
هكذا بدأ طلحت حمدي مرحلة جديدة في حياته، عاشها متنقلاً بين الفرق المسرحية، إلى أن قادته قدماه إلى مقرّ فرقة «العهد الجديد» في منطقة البحصة وسط دمشق. «كان المقر بناءً طينياً متهالكاً، فرممناه كي يكون مسرحاً نقدم على خشبته عيون المسرح العالمي». اختارت الفرقة نص أرثر ميللر «كلهم أبنائي»، وبنت عليه تجربتها الأولى. لاقى العمل استقبالاً ملحوظاً. في تلك الفترة، أعلنت وزارة الثقافة تأسيس المسرح القومي (1960)، فجالت لجنة متخصصة على الفرق المستقلة، واختارت بعض ممثليها، وكان طلحت أحدهم، «على اعتبار أنني أجيد التمثيل بالفصحى، فيما استبعد رفيق الصبان الذي كُلّف بانتقاء عناصر للفرقة الجديدة ممثلي العامية».
انتظر الممثل الشاب دوراً يكشف عن موهبته، لكنّه فوجئ بأنّه مجرد كومبارس، ينطق جملة واحدة، أو يؤدي دور شخص ميت، فاحتج غاضباً، ليجد نفسه معاقباً بنقله إلى مستودع الملابس. لم يعد أمام طلحت سوى تقديم استقالته، والتوجّه إلى الإذاعة. وزير الثقافة حينذاك كان قد أصدر قراراً بمنعه من العمل في أيِّ من المؤسسات الفنية الرسمية. لكنّ مدير الإذاعة لم يتجاوب مع القرار، واعتمده مخرجاً إذاعياً. في مطلع السبعينيات، استدعت وزارة الثقافة رفيق الصبان الذي كان قد استقر في مصر حيث ما زال مقيماً إلى اليوم، واقترحت عليه أن يخرج في دمشق مسرحيّة شهيرة للكاتب المصري الراحل ألفريد فرج، هي«الزير سالم»، فاشترط أن يؤدي طلحت حمدي الدور: «كان هذا الاختيار ردّ اعتبار لي، فعدت مجدداً إلى المسرح القومي». يروي هنا حادثة أخرى، بطلها علي عقلة عرسان الذي كان مديراً للمسرح القومي. «أرسل لي دور كومبارس في مسرحية «الملك لير»، فرفضت الدور بالطبع، لكنه أجابني: «نحن دولة اشتراكية، ليس لدينا بطل وكومبارس، الجميع في خدمة المعركة، وعليك أن توافق». لم تعجبني هذه العقلية، فقدمت استقالتي مرةً أخرى، وغادرت المكان».
في التلفزيون اختاره غسان جبري كي يؤدي دور «عروة بن الورد» في تمثيلية تلفزيونية كتبها الشاعر الراحل علي الجندي. يقول متهكماً: «فوجئت بأن أجري لا يتجاوز 40 ليرة سورية، فيما صُرف لصاحب حمار ــــ كان جزءاً من ديكور العمل ــــ 400 ليرة. قلت لوزير الإعلام آنذاك: «نحن الممثلين مطلبنا المساواة بأجور الحمير». مسلسل «دولاب»، في زمن الأبيض والأسود، أطلق شهرته، لكنّ حنينه إلى المسرح أعاده إلى الخشبة مجدداً، فأسّس فرقة «المسرح الطليعي» بمشاركة الكاتب أحمد قبلاوي، ثم انضما معاً إلى فرقة محمود جبر الذي يعتبره «موليير سوريا». مثّلا معه في عروض جديّة، جابوا بها أبعد المدن السورية.
في منتصف السبعينيات بدأ البثّ التلفزيوني الملوّن، فكان مسلسل «ساري» للمخرج علاء الدين كوكش. تناول العمل قصة حياة الشاعر البدوي عبد الله الفاضل، وكان فاتحة لمرحلة جديدة من الأدوار اللافتة التي توّجها بمسلسل «دائرة النار» مع المخرج هيثم حقي. قد يكون أدى هنا واحداً من أبرز أدواره، مع شخصية موفق التي اقتبسها ممدوح عدوان عن قصة «الرجل المعلّب» لأنطون تشيخوف. سنراه لاحقاً في أداء مختلف عبر مسلسل نوعي هو «حمّام القيشاني» بأجزائه الأربعة. فكانت شخصية شوكت القناديلي علامة أخرى في سجلّه الفني. لكن لماذا لم نشاهده في أعمال أخرى تدور حول البيئة الشامية؟ يجيب: «أرفض المشاركة في أعمال لا تخاطب العقل، ذلك أنّ معظم هذه الأعمال تعيد إنتاج التخلّف، أبطالها حرروا فلسطين من مقهى الحارة».
يبدو أن سؤالنا حرّك فيه جرحاً راعفاً: «لست متفائلاً بالدراما السورية إذا استمرت على هذا النهج القائم على البحث الرخيص عن التسلية والترفيه، و... تصدير الجهل. الأعمال التي تنتج اليوم بعيدة عن عذاباتنا وهمومنا الحقيقية، وتفتقد العمق، كذلك تفتقد الحامل النهضوي، والخطط الاستراتيجية التي هي أساس نجاح أي عمل إبداعي». لهذه الأسباب ابتعد باكراً عن الشاشة، وأسّس شركة إنتاج، ووقف وراء الكاميرا، فأخرج نحو عشرة أعمال، أثارت جدلاً واسعاً، كان أبرزها «السنوات العجاف» و«طرابيش»، و«الزاحفون»... لكنّ الهجمة الشرسة لرأس المال المتوحش، مطلع التسعينيات، أرغمته على إغلاق أبواب شركته.
لعل طلحت حمدي صورة نموذجية لجيل فني دفع فاتورة ضخمة، شغفاً بالفن وحده... وها هو اليوم يكتفي بإطلالات متباعدة، كان آخرها في مسلسل «توق» مع المخرج شوقي الماجري. عاد إلى السينما بعد غياب (نتذكّر دوره اللافت في «أحلام المدينة» للمخرج محمد ملص)، في فيلمين، الأول «هوى» عن رواية لهيفاء بيطار إخراج واحة الراهب، والثاني شريط إيراني بعنوان «يوم القيامة» بتوقيع المخرج أحمد رضا درويش.



5 تواريخ

1941
الولادة في دمشق لأب كردي وأم من الجولان

1960
انتسب إلى فرقة المسرح القومي

1970
أدى دور الشاعر عبد الله الفاضل في مسلسل «ساري» للمخرج علاء الدين كوكش

2006
حصل على «درع التميّز» من جامعة الدول العربية

2011
شارك في مسلسل «توق» للمخرج شوقي الماجري، وفي فيلم إيراني بعنوان «يوم القيامة» للمخرج أحمد رضا درويش