تاريخ حياة جابر بن حيّان، غير واضح. قرنٌ بعد نبيّ الإسلام؟ 725 م؟ 812؟ 760؟ 940؟ من الكوفة أم من خراسان؟ أم من طرطوس على ما تقول رواية نقلها الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «جابر بن حيّان» (المؤسسة المصريّة العامة، 1961) عن أي. جي. هولميارد؟ وتقول رواية ثانية إنه صابئي من حرّان، وثالثة إنه يوناني اعتنق الإسلام، ورابعة إنه توصّل إلى صنع إنسان، وخامسة إنه تأثّر بأبحاث أحد أبناء السلالة السفيانيّة، وسادسة (لعلّها أقرب إلى الحقيقة) إنه تلميذ جعفر الصادق، وسابعة إنه أسطورة، وثامنة إنه أكبر كيميائي عرفه العرب. قائمة مؤلّفاته التي نبشها المستشرقون الألمان والإنكليز تفوق العشرين عنواناً، بينها «كتاب الرحمة» و«كتاب الموازين» و«الحاصل». صوفيّ خيميائيّ اشتغل على الأعداد واعتبر أنّها تحكم الكون، مكمّلاً بيتاغور، وآمن بقدرة العلم على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، ويُعتبر مكتشف العلاقة بين الأجسام الكيميائيّة. طابَقَ بين حروف الأبجديّة العربيّة والمعايير الوزنيّة، شَرَح نظريّة الاستدلال بالمجانسة، أستاذ في المؤالفة بين الجوّاني والبرّاني، الكمون والإعلان، الاستقرار بين المحجوب والمكشوف، والتكامل بين العالَم الأصغر، الإنسان، والعالم الأكبر، الكون. وذلك كلّه، وغيره، ضمن قاعدة أنّ الطبيعة تستمتع بالطبيعة...لا تخلو كتابات جابر، شأنها في ذلك شأن معظم الكتابات الباطنيّة، من السفسطائية السقراطيّة، ولكن هنا بذريعة كون «الغاية من التأويل استبطان الظاهر وإظهار الباطن»، على قول جابر، وقوله أيضاً: «سوف أكون متحفّظاً وغامضاً، فأقدّم بعض الوضوح وأحتفظ لنفسي ببعضه». ومعظم مؤلّفاته يتداول تقريباً الموضوعات نفسها، على تنويعٍ أسلوبي.
اتّصل جابر بهارون الرشيد والبرامكة، ولمّا انتشرت أخبار تشيّعه حاذَرَ الاضطهاد، فلجأ إلى الكوفة وعاش مستتراً حتّى انتقال السلطة إلى المأمون.
عارض الشيخ الرئيس ابن سينا نظريّة التحويل، وعارضها مثله الكِندي، ووقف الفارابي في الوسط، وقال ابن سينا في كتابه «الشفاء» إن التحويل في المعادن «ممكن فقط في المحسوسات العَرَضيّة التي لا تمسّ جوهر الأشياء»، أمّا الفواصل الحقيقيّة (بين الذهب والفضّة مثلاً) فمجهولة، وكيف لنا أن نؤثّر في المجهول؟
لكن جابر كان يؤمن إيماناً راسخاً بقدرة العلْم على تصيير الموجود بالقوّة موجوداً بالفعل، وكان يقول إن النفس في أوّلها «قادرة فاعلة جاهلة»، ثم تكتسب المعرفة والقدرة بالجهد والترويض. أمّا المواهب فتُعطى «بالطباع أوّلاً».

■ ■ ■

نروي الآن عن شبحي الذي التقى جابر بن حيّان بالأمس بين ليلة وضحاها.
كان لقاءً صاعقاً، كجميع المحتومات غير المتوقَّعة. فاتح الرجلُ ابنَ حيّان برغبته المحمومة في تجسيد هذياناته. «مثل ماذا؟» سأله جابر. أجاب: «دعنا من المعادن، من الماء الثقيل والزئبق والأفران».
جابر ـــــ كيف هذا: دعنا!؟ نمحو الاختراعات والاكتشافات الضخمة لألبير الكبير (البوتاس) وريمون لولّ (بيكاربونات البوتاسيوم) وتيوفراست باراسيلز (الزنك والمركّبات الكيميائيّة) وديللا بورتا (أوكسيد القصدير) وبازيل فالنتان (الأسيد سولفوريك والأسيد كلوريدريك) وجوهان رودولف غلوبر (سولفات الصوديوم) وبراندت (الفوسفور)؟ بلمح البصر تريد أن تلغي جهود أجيال من إرهاق الذات؟
الشبح ـــــ عفوك مولاي، بل ما أستأذنك به ما هو إلّا تتمّة لذلك الحلم.
جابر ـــــ وما هي هذه؟
الشبح ـــــ فكرة مبنيّة على العطاء.
جابر ـــــ حسناً. ما هي؟
الشبح ـــــ نُحلّ محلّ المعادن المال، نعطي منه القليل (إلى مَن نريد) فيعود للحال إلينا مضروباً بعشرة، أي مضافاً إلى الصفر صفر. المئة تعود ألفاً، والألف عشرة آلاف، والعشرة آلاف مئة ألف، وهكذا حتى بلوغ مليارات المليارات.
جابر ـــــ علامَ هذه الشراهة؟ وأين تكدّس هذه الأطنان؟
الشبح ـــــ لا تكديس، بل مجرّد أرقام، فأنت هنا متفاهم مع الإرادة ...
جابر ـــ ... الإرادة؟
الشبح ـــــ إرادتك المتّصلة بالإرادة العليا.
جابر ـــــ أرى ... متفاهم على ماذا؟
الشبح ـــــ على وضع هذه المبالغ أمام عينيك وفي متناول رغبتك تحت شكل أرقام مضيئة، قابلة فوراً للتحويل إلى الغايتين: المال تحوّله إلى حياة (تقديرها بالسنوات والعافية، كل مليار، ولنقل مليار دولار، بمئة سنة) وإلى وحدات زمنيّة (كلّ مليار بمئة وحدة) والوحدة على هواك، فضيلةً أو جمالاً، صحّة أو نزوة، موهبة أو حلماً.
جابر ـــــ تحقيق المستحيل.
الشبح ـــــ العمر نضراً إلى ما شئت وشاء راغبوك، والأماني كما شئتَ وشاء راغبوها. ما رأيك مولاي؟
جابر ـــــ من المحدود إلى اللانهائي، من الرخيص إلى الأنبل، من النفق إلى الخلاص، من الخلاص إلى إعادة التكوين، هذا هو الإكسير والحجر الفلسفي. لقد رأيتَ بعضَ ما رأينا ولكنْ بلغةِ عصرك وبصبوة طباعك. والله ما شقينا إلّا للغاية ذاتها. الذهب الخيميائي هو هذا. حلم أحلامنا لحم ودم على روحهما، روح من لحم ودم، جسدٌ خالدٌ بأنواره، صباً شيخوخته صبا وصباه مُعتَّق إلى الأمام.
الشبح ـــــ انصح لي ماذا أفعل وقد بلغتُ الحدّ من الهَجْس والقعر من الهذيان؟
جابر ـــــ واصلْ!
الشبح ـــــ كيف؟
جابر ـــــ تمرَّس بفنّ الذاكرة حتّى يفضي بك إلى استعادة الله.
ـــــ تَخْتَخْتُ من تكرار الحلم، تمزّقتْ عروقي. صرتُ بين جنونٍ وجنون.
جابر ـــــ بل أنت في حشاشة المنطق.
الشبح ـــــ جفاني النوم.
جابر ـــــ أَرَقُ المتطلّع إلى الشاطئ. لا تستسلمْ.
الشبح ـــــ لم أعد جديراً بالاستسلام. صرتُ جزءاً من رؤى تفترسني.
جابر ـــــ هذا وَجْد.
الشبح ـــــ ما أحاول أن أفهمه منك هو الحاصل، على قولك وقول الإمام الصادق لك، ما الحاصل من هذا العناء؟ أليس وهماً في خيال؟
جابر ـــــ الوهم بخارُ الماء، والماءُ جوهرٌ لا وَهْم.
الشبح ـــــ أنّى لشخصٍ أن يضع رؤاه في أثواب الواقع وهو لا صلة له بعلْم؟
جابر ـــــ الحلم علْم ...
الرجل ـــــ حلمُ رجلٍ معزول؟
جابر ـــــ حلْمُ الواحد هو حلم الكلّ.
الشبح ـــــ يكاد رأسي يتدلّى من حلمي والحلم ما زال يراوح مكانه. نوِّرني يا مولاي، أين نهاية النَّفَق؟
جابر ـــــ بك أو بسواك، سوف يندمج الشوق في غايته. تلك تكون بداية الاندماج المُطْلَق. لا تقع من حلمك، إنه موصولٌ بينبوعٍ لن يجفّ بل سيواصل تدفّقه حتّى يعود الى البحر ويعود البحر إليه، ومن ثمَّ يتحقّق الفرع في الأصل والأصل في الفرع ويلتئم الجرح وتشفى الخليقة.
الشبح ـــــ متى!؟
جابر ـــــ حين تُشرق الشمس لا تعرف الشمس أنّها تشرق.




«لأنّي أحيا»

مدهشٌ إصرار هبة قوّاس على الغناء العربي الأوبرالي، ويذكّر بإصرار حفنةٍ قبل نصف قرن على اختراق التقاليد الشعريّة العربيّة. أسمعُ جديدها «لأنّي أحيا» وأتأكّد أنّ هناك مَن تَجاوز أولئك الروّاد عناداً وإيماناً بدعوته.
أوّل ما عرفت هبة قوّاس كانت في مطلع الصبا. دخلَت مكتبي في «النهار» بصحبة الشاعر حمزة عبود، راعيها الأوّل، ولم ألبث أن تلقّيتُ واحدةً من ألطف المفاجآت حين سحب حمزة من حقيبتها شريطاً ورحنا نسمع هبة تغنّي من تلحينها بعض شعرٍ لي. كانت بعدُ أقرب إلى الطفولة منها إلى الصبا. ملأت فرادتُها الغرفة. وما زالت علامة فريدة.
المرحوم وليد غلميّة، راعيها الدائم، لم يفارقه الإعجاب بها حتّى النهاية، ورأى فيها آمالاً لم يَرَها في أحد.
تُلحّن هبة وتغنّي أصعب الشعر. هذه فنّانة انتحاريّة. لو أرادت لحقّقت أعلى درجات الجماهيريّة بمجرّد السير على خطى الغريزة والدغدغة، لكنّها لم تُخْلَق لهذا، ويكفيها جمهورها، وهو غير قليل ويتزايد، ويكفيها حلمها. وإذا غنّت بالدارج، مثل أغنيتها «نجوم الدني بعينيك» من شعر ندى الحاج، فلكي تضعه في الإطار ذاته من الرفعة والقوّة.
ليس سهلاً أن تعتاد آذاننا هذا النوع من الغناء. حتّى في لغتيها الأصليّتين، الإيطاليّة والألمانيّة، تستحلي الأذنُ الموسيقى أكثر ممّا تستمرئ الغناء، ولا سيّما الغناء الفردي، على اعتبار أن غناء الجوقة يغمر الحواس غَمْراً جارفاً. ما تفعله هبة قوّاس هو عمل فدائيّة اجتازت الخطوط الأماميّة.
فنّانة تَرِد الغناء كما يَرِد الطارق البوّابات الحديديّة الموصدة: تَقْرع تقرع، ولا توقفها أسوار السجون. وسجون العادات أشدّها إحكاماً، لأنّنا نَحسب أنفسنا فيها أحراراً.