ينحاز إبراهيم نصر الله إلى الهدوء، ليس في الأدب فحسب، بل في الحياة أيضاً. لا بدّ من أن تبذل جهداً لتلتقط كلماته، وهمسه الخفيض. في بهو أحد الفنادق البيروتيّة، التقيناه على هامش مشاركته في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، حيث وقّع قبل أيام روايته الجديدة «قناديل ملك الجليل» (الدار العربيّة للعلوم ناشرون). يملك الروائي الفلسطيني الجرأة على سرد حياته، بعيداً عن حيل الأدب ومراوغاته. يصير الكلام معه عارياً. يستعرض صاحب «الملهاة الفلسطينية» ذاتيته أمامنا، لنخرج بسيرة كاتب لطالما كانت فلسطين، حكايته الكبرى.
ولد إبراهيم نصر الله في مخيم الوحدات في الأردن عام 1954 في «النقطة الصفر» ـــــ كما يقول. كالعديد من أبناء جيله، وجد نفسه خارج فلسطين، محكوماً باليأس. يتذكر السقف الذي لم يحمه من المطر، والباب الذي لم يحمه من البرد، والكتب المشتهاة. «لم أعش طفولتي إلا سرقة». كانت المدرسة خيمة، و«كلّ أربعة أطفال يتشاركون كتاباً واحداً». حتى عندما كبر، لم يعش ما فاته من طفولة. منطق الخيمة والشتات بقي المتحكّم الأكبر في حياته. «كنت أتمنى دراسة الموسيقى، والذهاب إلى الجامعة، وضع العائلة الصعب جعلني أركز على محاولة العيش فقط». كل ما حوله كان يحدّثه عن فلسطين: الخيمة، البؤس، الشقاء... كل تلك الأشياء التي تسحق حياة الفلسطيني اليومية. كتب في رواية «طيور الحذر» حياة طفل، منذ أن كان جنيناً، إلى أن صار في الرابعة عشرة. بطله يصطاد العصافير ويعلمها الحذر، ثمّ يطلقها، كي لا يتمكّن أولاد آخرون من اصطيادها مرةً أخرى. كان نصر الله شاهداً على مراحل الرعب في أردن الخمسينيات والستينيات. «لم يكن أحد يجرؤ على فتح الراديو ليسمع جمال عبد الناصر». كان صغيراً على الالتحاق بحركات المقاومة في السبعينيات، رغم خضوعه للتدريب في مخيّم أشبال المقاومة، ومعايشته لـ «أيلول الأسود». يعترف بأنّه حين بدأ وعيه السياسي بالتشكّل، كان الخراب قد طاول التنظيمات الفلسطينية، فأخذ موقع الناقد. كانت تلك طريقةً ليرفض أن يكون جزءاً من ذاك الخراب. «الفلسطيني في حاجة إلى ربيع الثورات الذي نعيشه اليوم منذ توقيع اتفاقية أوسلو، إن لم يكن قبلها».
عاش الشاعر والروائي والناقد ماضياً لا يحرّض على الكتابة. «كان كلّ شيء ضدّ الكتابة. المدرسة والأهل كانوا ضد التثقيف الذاتي». كان ينظر إلى الكتاب على أنّه ترف. ينتقد سياسة «الأونروا» التعليميّة، وفي مقدّمتها «ألّا يعرف الطفل الفلسطيني أي شيء عن فلسطين». واقع الأردن الصعب منعه من العمل، بعد تخرجه من «معهد المعلمين». ذهب إلى التدريس في السعوديّة بين عامي 1976 و1978، فترة استغلها في القراءة وتكوين تجربته الأدبية الأولى. «عشت في منطقة سماها يحيى يخلف ذات يوم «نجران تحت الصفر»». خرج من هناك بتجربة قاسية، «أصعب من المخيّم»، يقول. «كان الناس مسحوقين تماماً. فقر لا يمكن تخيّله وأمراض مستوطنة. قبل عامين فقط، اعترف الملك السعودي بأنّه جرى تجاهل تلك المناطق كثيراً. كانت قد مرّت ثلاثون عاماً على معايشتي بؤس الحياة هناك».
في تلك الفترة، قرأ كتب غسان كنفاني، التي أخبره فيها «أنّ للفلسطيني اتجاهاً واحداً، يجب أن يمضي فيه هو اتجاه وطنه، وأي وجهة أخرى تبعدك عن الوطن، تبعدك عن القضية». جملة حرّضته على العودة إلى الأردن، مكرّساً حياته للعمل من أجل قضيّته الأولى، فلسطين. عودة لم تكن سهلة، كما يصفها إبراهيم نصر الله. كتب في الصحافة ثمانية عشر عاماً، إلى أن أقفلت صحيفة «صوت الشعب» مكاتبها، وكانت آخر مطبوعة عمل فيها. بعدها انتقل للعمل في «مؤسسة شومان الثقافية» لمدّة عشر سنوات، إلى أن تفرّغ للكتابة تفرّغاً تامّاً عام 2006.
اندفاعه الأوّل إلى الكتابة كان نابعاً من إدراكه لأهميّة الأدب في الموروث الشعبي. «الأدب الفلسطيني، يُعدّ الكتاب الروحي للشعب الفلسطيني». أراد أن ينجز ما يجعل فلسطين ـــــ «الفكرة الكبرى» ـــــ جميلةً... مرة في قصيدة، ومرة في رواية، ومرة في قصة أو لوحة أو فيلم سينما، ومرّة في الشهادة. أسهمت السينما في تكوينه، وكانت بالنسبة إليه هي العالم. كان يرى الواقع خارج الشاشة، عالماً بائساً ومتصحراً. «من خلال السينما، كنا نرى البلاد، وعالماً جميلاً خارج المخيم. كنّا نرى أميركا، وفرنسا، وإيطاليا، ومصر». الشغف بالشاشة الفضية حرّضه على الكتابة النقدية، فأصدر كتابين في النقد السينمائي، هما «هزائم المنتصرين»، و«صور الوجود: السينما تتأمل».
يرى أنّ مقاطعة إسرائيل واجب في الطريق إلى استرجاع الأرض والحقوق المغتصبة. هكذا رفض المشاركة في «معرض الكتاب الدولي في تورينو» (إيطاليا) عام 2008، إذ ارتأت التظاهرة يومها الاحتفال بمرور ستين عاماً على نشوء اسرائيل. الطريقة الوحيدة لفهم ما يدور في العالم العربي في رأيه، هي فهم ما يحدث في فلسطين. من هنا انطلق مشروعه الروائي «الشرفات»، كوجه آخر للقضية المركزيّة، في ثلاث روايات «شرفة العار»، و«شرفة الهذيان»، و«شرفة الثلج». يبدو سعيداً لكتابتها قبل الانفجار الأخير الذي عمَّ شوارعنا العربية. انحيازه للتغيير جعله يعدّ نفسه من المحرّضين على الثورات، «ضد الفساد والصدأ الذي أصاب الإنسان العربي»، يقول. يصف صراعه مع الرقابة في الأردن بـ«العمل الكيدي»، وخصوصاً إثر منع ديوانه «نعمان يستردّ لونه» (1984)، بعد مرور أكثر من 22 عاماً على صدوره. «أنا أكثر كاتب منعت أعماله في الأردن. واجهت المنع أربع مرات، ومنعت من السفر لست سنوات، ومُنعت من إحياء أمسيات شعرية. كنت أذهب وأجد القاعة مليئة بالأمن الوقائي الآتي في باصات ممتلئة، حتى لا يجد الناس مقاعد لسماعي». رغم كلّ ذلك، تحدى مرحلة الأحكام العرفية، وكتب رواية «عوّ» ضد الجنرالات، واحتجاجاً على ترويض المثقفين.
في رواية «زمن الخيول البيضاء» التي رشحت لجائزة «بوكر» العربية عام 2009، يحكي جزءاً من تاريخ الشعب الفلسطيني بين عامي 1917و1948. في رأيه، هذه مرحلة ما كان يجب على جيل جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني أن يتغاضى عن كتابتها روائياً رغم صعوبتها. رغم حماسة المنتجين، لم يتحوّل العمل بعد إلى مسلسل تلفزيوني. «مررنا بفترة زمنية لم يكن أحد مستعداً فيها لمشاهدة فلسطين على الفضائيات».
تصدر روايته الأخيرة «قناديل ملك الجليل» في عزّ الربيع العربي، وتتناول شخصيّة ظاهر العمري، الذي ثار على الحكم العثماني واستطاع أن يقيم في فلسطين أول كيان وطني حديث بين عامي 1689 و1775. على صفحاتها، يتخيّل أنّ التظاهرات التي تخرج اليوم إنما هي للمطالبة بعودة ظاهر العمري، ودولته القائمة على التسامح الديني والعدالة الاجتماعية وكرامة الفرد ورفض التوريث. «لو كان ظاهر العمري موجوداً اليوم، كنت لأطالب بوجوده على رأس كل الدول العربية إذا كان الشعب يريد».




5 تواريخ

1954
الولادة في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين (الأردن)

1976
تخرج من «معهد المعلمين» في عمّان

1985
أصدر باكورته «براري الحمى» التي اختارتها الـ«غارديان» واحدة من عشر روايات عبّرت عن العالم العربي

2009
وصلت روايته «زمن الخيول البيضاء» إلى اللائحة القصيرة لـ «بوكر» العربية

2011
وقّع قبل أيام روايته الجديدة «قناديل ملك الجليل» في جناح «الدار العربيّة للعلوم» في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»