يشهد هذا الأسبوع والأسبوع القادم حفلات تحييها فيروز في ساحل علما. هنا خواطر عامّة على حلقتين:

الكتابة عن فيروز أفضل ما تكون حين يعتقد الكاتب أنّ فيروز لن تقرأ. معظم ما كتبته عنها سيطر عليه يقين الرماية في المطلق، ممّا منح الكتابة، خصوصاً بين منتصف الخمسينات وآخر ستّينات القرن العشرين، صفة التجرّد من التأثير الاجتماعي أو الشخصي. كتابة وجدانيّة، تحوّل فيها المكتوب عنه إلى موضوع مستقلّ عن سياقه المهني، إلى مصدر إلهام، وإلى ملجأ يمنح الأمان والهويّة.

■ ■ ■

يقول بعضهم إني بين مقال وآخر لا بدّ أن أعود إلى فيروز. حقّ. محطّات وشاشات تُصبّح بفيروز فلمَ لا نُمسّي. ذاك حسن وهذا. مَن شبَّ على حلمٍ شاب عليه. جِنّهُ أعطفُ من الأنس.

■ ■ ■

أيّ فرقٍ بين فيروز الفنّانة وفيروز الشخص؟ إنّه الفرق بين الشخص وانعكاسه في المرآة. فرقٌ كبير وفي الوقت نفسه لا يُذْكَر. الفرق بين الكمون في الذات والظهور للذات، والذات هنا، عوض المرآة، هي الجمهور.
فيروز الفنّانة العاملة ترتمي في النار قبل أن تعود إلى البيت وترتمي في الانتظار. هناك نار وهنا جمر.

■ ■ ■

حارت الأفكار في فيروز الشخص. تارةً لغز وطوراً بساطة. قد يجتمع عشرة ممّن عرفوها ويحاولون رسم ملامحها فيكتشفون أن كلّاً منهم سيضع «حقيقة» مختلفة عن «حقائق» زملائه. المغلَقة الأليفة.
المكافِحة بلا آثار جروح.
هي بشخصيّتها منذ ما قَبْل الأخوين. عمود بيت أهلها من أيّام المدرسة، المستسلمة لدعوتها استسلام المسحور، بثقةِ مَن يثق الثقة المطلقة وتشكيك مَن يشكّك الشكّ المطلق. لها أبواب وليس لها وجوه، فوجهها واحد بلا تلاعب، وقد ترتكب بسبب هذا «الالتزام» أنواعاً من القسوة.
حارت بها التأويلات. ما يعتبره الواحد قليلاً تراه هي كثيراً. والعكس. ما تراه هي ثباتاً يراه الآخر انقلاباً. والعكس. مقاييسها لها، وهي تريحها، وهذا تقريباً كلّ ما يريحها. القلق مقيم فيها أكثر منها. عندما تتذكّر أجزاء من ماضيها، ما بين المدرسة والأغنيات الأولى، يستنير وجهها بابتسامةٍ عريضة. تُدْهَش. «كان كلّ شي يضحّكني».

■ ■ ■

يمكن أن يُطلق على فيروز لقب «جبّارة» الذي أطلق على أحد أجداد أمّها المعلّم بطرس البستاني في القرن التاسع عشر. العلّامة والعَلَامة. مثله تجمع إلى الترهُّب لفنّها بساطةَ العيش والتواضع ودماثة الأخلاق ورحابة الصدر، وبالأخص صفتي الصبر والجَلَد وفوقهما وأكثر منهما ثبات العزيمة والنفور من الرياء، وكره التعصّب.

■ ■ ■

تتوارى فتترك مكانها غلالة تُعذّب مستنطق اللغز. جان بيار دوليفير، مصمّم الأزياء الموهوب، وقد عمل معها مراراً، كان يقول متهيّباً: «حبّذا لو يتوصّل أحد إلى شقّ الباب على هذا الكنز المسحور!». كان يقولها بحماسة ويأس. «كائنٌ غريب مُغْلَق في محيطٍ يحبّها ولا يشبهها».
الافتتان بصوتها جعل العاملين معها، تأليفاً وتلحيناً وأداء، يعطون أفضل ما فيهم. شخصيّة تستحوذ، تستنهض، تستقطب أقصى العطاء. صوتٌ لا يَفتعل، لا يفعل شيئاً لمخاطبة الحلم، فهو نفسه، بواقع أمره، وحتّى من دون لحن ولا غناء بل بمجرّد المحادثة: حلم يقظة وضّاح ورؤيا منامٍ صاحٍ.

■ ■ ■

غناء فيروز لا يتشنّج، لا يعلو صراخها. قد يضطرّها دورٌ مسرحيّ إلى الصراخ لكنّ غناءها لا يعرض عضلات. أغلبه هَمْس. بوحٌ من حنجرةٍ إلى وجدان. دفءٌ غامر بلا لَهَب التظاهر.
هو لَهَبُ السكوت.
صوتُ ماسٍ مائيّ.
مَن يَحمل مَن على جناحه، الصوت أم اللحن؟ أحياناً يتبادلان الخدمة، ولكن الصوت مُفْرد وهو محاطٌ بأجمل الألحان. الحقّ أن هذا كان يبحث عن ذاك. إيقاعُ عاصي الرحباني هو الشقيق التوأم لإيقاع فيروز. فيروز الهادئة هادئة على غَلَيان إيقاعيّ لا يتوقّف. تحت جليد الهدوء عروسٌ ترقص في الغابة.

■ ■ ■

يتطلّع إليك من صوتها أولئك الذين قسوتَ عليهم، أسأتَ إليهم، ينظرون إليك غافرين. يزورك من صوتها مَن لم يعرف أن يدافع عن نفسه، مَن لم يجد صديقاً، مَن نام على دموعه.
يزورك المحروم وكرامته.
يزورك الطفل الذي لم يتعلّم بعد أن يمشي، لكنّه يطير...

■ ■ ■

الزمنُ لم يمرّ.
في أحد أيّام الخمسينات من القرن الماضي نشرتُ في مجلة «الأجيال الجديدة» (أصبحت في ما بعد مجلة «المجلّة») لصاحبيها حسين قطيش ووفاء نصر مقالاً كان تحيّة إلى «زنبقة الشعر». كان عنوانه «فيروز». لعلّها أولى كتاباتي «الإيجابيّة»، شاذّة على لغتي البريّة المعذَّبة المتعنجهة. كانت دنيايَ البوهيميّة تمتدّ من ساحة البرج إلى سوق الطويلة، ورفاقي جورج ضو وعادل مفرّج، ذو الفقار قبيسي وهنري حاماتي وعادل الأعور، وفاء نصر وحسين قطيش. أكثر ممّا أَستحقّ. أتذكّر ذلك المقال بحنين لأنّه أوّل نفحة هواء نقيّ تنشّقتُها.
منذ ذلك الوقت لازمني شعور الهواء النقي وبلغ ذروته الأولى لدى حضوري مسرحيّة «جسر القمر» في بعلبك عام 1962.
الهواء النقي.
ولا علاقة للمعرفة الشخصيّة. حتّى ذلك الحين لم أكن أعرف أحداً إلّا مَن ذكرت. وهل يعرف أحدٌ أحداً؟ ما نأخذه، الواحد من الآخر هو ما نأخذه دون معرفته.
وما نأخذه دون أن نعرف.

■ ■ ■

ألا تُحبّ الذين يحرّكون لهفتك لحمايتهم، أو يبعثون فيك الشعور بالذنب؟
أُعْجَبُ بالأقوياء، لكنّي أفضّل أولئك المحيطة بهم نعمةٌ ما، على ضعفٍ محتشم، وإيحاءاتِ هشاشة، أولئك الفنّانين الذين حين يقفون على المسرح عند حافّة الانهيار من شدّة التهيُّب، يبسطون على الحضور سلامَ السماء، عارفين أو جاهلين أنّ جمهورهم هو الواقع من سحرهم تحت الحافّة.

■ ■ ■

غناءُ السرّ.
غناءٌ يوحي ولا يَلجّ، فَرّارٌ كالخيال. هو اللحن وظلاله، الشعر وخياله، الصوت وأفياؤه. خمائل وجداول.
غناءٌ مفتوحةٌ عيناه على داخله كحالمٍ يقرأ نومه، ومفتوحتان على الخارج كعيني غزال يطارده صيّاد.
عنوان فيروز هو السريّة. الزمن لم يغيّر شيئاً. تأثيرات الحياة لم تبلبل سريّتها بل رسّختها وشذّبت زوائدها وضاعفت صلابتها. سريّتها سليقة. لا أحد يعرف حقائق هذه الشخصيّة معرفة كاملة. فيروز سرّ يهوى غموضه، وليس في هذه السريّة ذرّة من الاصطناع. سريّة مخلوقة، تنسج ستائرها طبيعيّاً كما تنسج الأمّ أمومتها.
غناؤها إطلالة مِن سِريّتها.
من قفص سِريّتها.
فيروز خُلقتْ فيروز قبل أن توجَد نهاد حدّاد.

■ ■ ■

يسأل بوشكين قارئه: «هل سمعتَ في الغابة الكثيفة، مطربَ الحبّ يغنّي حزنه؟ هل صادفته في الغابة العظيمة؟ هل رأيته يبتسم؟ أشاهدتَ دموعه، نظراته الحنونة التي أثخنها الألم؟
هل تأوّهتَ تحت مداعبات الصوت، صوت مطرب الحبّ الذي يغنّي حزنه؟ وحين صادفته في الغابة، هل رأيت عينيه ونظرتهما اليائسة؟ هل أرسلت عندئذٍ تنهّداتك؟».
وبدورنا نحاول استلهام كبير شعراء روسيا فنسأل:
هل صادفتَ شاعرة الصوت في الغابة الصاخبة؟ هل رأيتها برباطة جأشها وسط بحر المآسي؟ هل رأيتَ السلام؟ هل رأيتَ نجوم عينيها تدمع وغناءها ينشر ملائكة الإغاثة؟ هل تنفّستَ الصعداء وصدّقتَ أن الصوت هو الجواب؟
وما من جواب سواه إلّا أصداؤه.