الرصاصات التي أطلقها البدري فرغلي من بندقيته لم تصب العدو الإسرائيلي. صوّب نحو أرجل تمشي متخفيّة في ظلال الليل، لكنّها لم تكن لجنود صهاينة، بل لحمار ضلّ طريقه، وكان مصيره أن لقي مصرعه على يد الشاب فرغلي، أحد نشطاء المقاومة الشعبية المسلحة في بورسعيد بعد نكسة يونيو (1967). يقهقه من فوق مقعده الخشبي، في مقهى «سمارة» الشهير في بورسعيد. «كنت متحمساً لإطلاق النار على الهدف، فكان حماراً في الصباح. لكننا لم نيأس قط. كنت وآخرين مسؤولين عن حراسة الشواطئ، وخزانات المياه، وكنا نشتبك مع الصهاينة المتسلّلين ونقتلهم». بعدما انتقل مع أهالي بورسعيد المهّجرين إلى محافظة الدقهلية (1972)، شارك البدري في إصدار مجلات حائط تنادي بالحرب على إسرائيل، ونجح مع خمسمئة متطوّع في ترميم مطار شاوة الذي دمرته الطائرتن الإسرائيلية في حرب أكتوبر (1973). في الطابق الأرضي لبيت متواضع في مدينة بورفؤاد، يسكن المناضل المشاكس البدري فرغلي (64 عاماً). يستيقظ في السابعة صباحاً، يتناول فطوره، يقرأ الصحف، ويتابع القنوات الإخبارية. يرتدي ملابسه المتواضعة، ثمّ يركب «معدية بورسعيد» التي تنقله إلى المقهى، حيث يلتفّ حوله رفاق السياسة القدامى، وشباب بورسعيد، ومناصروه في الانتخابات البرلمانية. «قضيت عمري في الشارع، وفي المقاهي، أصدرُ البيانات، وأحرِّضُ على إسرائيل، وعلى السادات، وعلى الرأسمالية المتوحشة، وعلى نظام مبارك. وشاركت في أوّل تظاهرة شعبية يوم «25 يناير»، وكتبت بيانات الثورة في أيامها التالية. أنا أحد الذين بشّروا بهذه الثورة. وكل وزراء مبارك في سجن طرة، فضحتهم في البرلمان، وأمام الرأي العام».
لم يكمل الطفل البدري فرغلي تعليمه. ترك المدرسة وهو في الصفّ السادس ابتدائي. «أوّل مقابل حصلت عليه كان 15 قرشاً، عملت في قسم الشحن والتفريغ، وكنت أسمع وقتها الأغاني التي تمدح الثورة والاشتراكية وجمال عبد الناصر. كنّا نسمعها في الميناء فتزداد حماستنا، لكنني لم أكن أفهم معنى كلمة اشتراكية». بعد سبع سنوات من عمله في ميناء بورسعيد، اعتُقل مع العشرات من عمال الميناء، بعد مشاركتهم في إضراب عام احتجاجاً على تدنّي الأجور. «في سجن بورسعيد، فهمت كلمة اشتراكية من العمال اليساريين. لكنّني صُدمت من نظام عبد الناصر. قضيت وراء القضبان عشرة أيام فقط، وخرجت بعدها عاملاً يسارياً يفرق بين الحقيقة والشعار».
العامل اليساري، عرف الطريق إلى السجن في أيام السادات أيضاً. لكن هذه المرة لأشهر عدة (عام 1974) بعد تأسيسه قصر ثقافة بورسعيد، مع مناضلين آخرين، من بينهم محمد أبو العلا السلاموني، وعباس أحمد، ومراد منير، ومحمد يوسف. «خاف النظام من سيطرة اليساريين على قصر الثقافة، كنّا في سجن الزقازيق. قابلت هناك يساريين، أتذكّر منهم الآن، المناضل سامي البلعوطي. كان بسيطاً، وخفيف الظلّ، وتشاركنا في الحلقات النقاشية والتثقيفية داخل السجن».
البدري فرغلي خفيف الظلّ، ككلّ أبناء البحر. في سجن الزقازيق، كانت السجائر العملة المتداولة لشراء الشاي والحلوى. وكان يُصرف لكلّ مدخّن ثلاث سجائر يومياً، وسيجارة واحدة لغير المدخنين... «ساءت أوضاع غير المدخنين، وطالبت بأن يحصل الجميع على ثلاث سجائر. لكنّ غير المدخنين رفضوا. وحاولت تشكيل جمعية «لا للتدخين في السجن»، لكنني فشلت، وانتصر البلعوطي ورفاقه المدخنين. ظلّت النتيجة 3 مقابل 1 إلى أن خرجنا، كانوا أغلبية». في المرة الثالثة، كانت ملابسات اعتقاله أقرب إلى مسلسل كوميدي. «اعتقلوني يوم 18 يناير، وأفرجوا عنّي يوم 19، ثم اعتقلوني يوم 20 يناير، ثم أفرجوا عني بعدما هدأت الأمور في القاهرة».
أزعجته جريمة قتل المتظاهرين في ميدان التحرير في20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، لذلك يعتقد أنّ الطبقات الشعبية لن تسكت على جرائم السلطة الحاكمة في مصر. «على العسكر أن يعودوا إلى الثكن، ويكرسوا أنفسهم لحماية حدود الوطن. المجلس يحمي حاليّاً أنصار النظام السابق، ويدافع عن الخصخصة، وينتهك حقوق العمال، لم يخلع حتى فاسداً صغيراً من مصرف قروي صغير. لن يسكت الشعب. وأنا أطالبه باستكمال ثورته حتى النفس الأخير، فمصر لن تعود إلى الوراء. مصر مدنية ديموقراطية، لا عسكرية ولا إسلامية».
في الانتخابات الأخيرة، فاز البدري فرغلي على مرشح حزب «النور». لم يترشّح على قائمة «حزب التجمّع»، ولا أي حزب يساري آخر، رغم أنّه قضى عمره في «حزب التجمع» منذ تأسيسه عام 1976، واستقال منه عام 2010، بعد مهزلة الانتخابات البرلمانية. لكنه تراجع عن استقالته لاحقاً: «شعرت بأنّ الوقت لم يحن بعد لترك التجمع نهائياً. علينا إصلاحه بعد الثورة». لا يؤمن الرجل بأن هناك حزباً يسارياً حقيقياً في مصر. كلها عينات أحزاب برأيه. «دمّر الانتهازيون اليسار المصري الذي كان قوّة شعبيّة حقيقيّة في السبعينيات وبداية الثمانينيات. حتى الأحزاب والتنظيمات السرية ضعفت جداً، لأنّها تخلّت عن التثقيف والتجنيد السياسي، وتربية الكادر السياسي». لذلك لا يتوقّع أن تحظى قوى اليسار بشعبية في المدى القريب. «تحتاج إلى سنوات عدة لبناء تراكم، والحلّ سيكون في الجبهة الوطنية التقدمية التي ستضمّ كلّ المكوّنات الوطنية لإنقاذ مصر من توغّل القوى الدينية التي تمارس السياسة بمشيئة إلهية».
الموت وحده سيفرّق بينه وبين العمل السياسي، يقول فرغلي. بعد عام على إحالته على التقاعد، أسّس اتحاد أصحاب المعاشات الذي تحوّل لاحقاً إلى «النقابة العامة المستقلة لأصحاب المعاشات»، بعضويّة لا تقلّ عن خمسين ألفاً. حصلنا بالاحتجاج والاعتصام على 3 مليارات جنيه (49 مليون دولار تقريباً) لنصف مليون من أصحاب المعاشات، وعلاوة اجتماعية، ونضغط الآن من أجل استرداد أموال التأمينات المنهوبة. هناك 437 ملياراً دمرها نظام مبارك، وهي تخص 25 مليون مصري، سنستردها بالاعتصام والغضب الشعبي».
البرلماني الثوري الذي قضّ مضجع مبارك ونظامه، بمئات الاستجوابات ضدّ الخصخصة، والمبيدات المسرطنة، وانتهاك حقوق العمال، وأموال التأمينات الاجتماعية، خاض انتخابات أوّل برلمان بعد الثورة... «لدي مشروع قومي قدّمته لتنمية منطقة قناة السويس، صناعياً وخدمياً، لكنّ حكومات مبارك أجهضته. سيحقّق المشروع 100 مليار دولار سنوياً على الأقل، وسيوفّر مئات الآلاف من فرص العمل. أحتاج إلى ربع ديموقراطية لتمريره، ولا أتوقعها قريبةً، إلّا إذا نظّمنا الطبقات الشعبية في جبهة وطنية تقدمية».



5 تواريخ

1947
الولادة في أسرة فقيرة من بورسعيد

1959
بدأ العمل في قسم الشحن والتفريغ، في ميناء بورسعيد

1966
اعتقل أيام عبد الناصر للمرة الأولى بسبب مشاركته في احتجاج لعمال الميناء

1975
اعتقل أيام السادات لمشاركته في تأسيس «قصر ثقافة بورسعيد»

2011
فاز في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة نائباً عن بورسعيد، وكان قد دخل البرلمان المصري للمرة الأولى عام 1990