لا تفتح الثورات نافذة أمل للثوار فحسب، بل تفتح نافذةً للإبداع أيضاً. تخلق الثورة أجيالاً جديدة من فنانين ذوي رؤية مختلفة، يسجّلون لحظاتها، يرسمون ملامح المستقبل، ويحفرون حضورها بمبادئ أخرى. المخرج عمرو سلامة إحدى ثمار «ثورة 25 يناير»... شريطاه السينمائيان «أسماء»، و«التحرير 2011: الطيب والشرس والسياسي»، يشيران إلى ذلك. مساء «25 يناير»، فكّر عمرو في الرحيل، وخصوصاً بعدما شهد بأمّ عينيه قمع قوى الأمن للتظاهرات التي خرجت مطالبةً برحيل نظام حسني مبارك. صرخ بأنّ الحل الوحيد في مصر، هو الهجرة، لكنّه تراجع سريعاً عن رغبته تلك. قررّ الانخراط في الحراك الشعبي، الذي تصاعد تدريجاً إلى أن أصبح ثورة، ألهمت العالم على مدى 18 يوماً، ونجحت في إسقاط أحد أعتى الأنظمة البوليسية في المنطقة العربية. كان عمرو سلامة واحداً من أهل الفن القليلين الذين قرّروا المشاركة في الثورة منذ الأيام الأولى، ولم ينتظروا أن ترجح كفّة الثوّار على كفّة النظام السابق. «لم يكن صوت العقل هو الذي قادني، بل صوت آخر، كان ينجح في إقحامي في المشاكل طوال حياتي». ألم الضرب المبرّح الذي تعرّض له يوم 25 يناير، جعله يبكي كالطفل. ظلّ يصرخ في العناصر العسكريّين الذين كانوا يضربونه: «أنا هنا عشانكم.
إنتو عارفين إنتو بتضربوني ليه؟ أنا معايا موبايل، وفلوس، وعربية، وحالتي المادية مستريّحة. إحنا هنا عشانكوا. عشان تعرفوا تاكلوا، وتأكّلوا عيالكم». صوت عمرو سلامة كان عالياً، إلا أنّ صراخ الضباط بـ«الضرب بزمّة» كان أقوى. أخيراً استجاب العسكر لندائه: «لسبب إلهي، سمعوا كلامي. نظرت إلى أحدهم، ووجدت أنّه قد تأثّر فعلاً بما قلته، فأبعدهم عني، وأتى لي بكرسي، وقال لي «أستاذ، هتعرف تمشي؟»». أجبت إنّني سأحاول. فطلب منيّ أن أجرب بسرعة، «قبل ما الظابط يرجع... ولو رجع هيموتك»». محاولة الفرار لم تفلح، إذ عاد الضابط، واستأنف مسلسل الضرب من جديد. «ككل الشباب، كنت أهتف بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية»، يتذكر المخرج الشاب، لكنّ إصابته في يوم الثورة الأوّل، منعته من المشاركة في جمعة الغضب، وحرمته أيضاً المبيت في الميدان. «للأسف لم أنم في الميدان ليلة، لأن إصابتي كانت شديدة الخطورة، لكنّني كنت أواظب على النزول إلى هناك يومياً».
ولادة عمرو في المملكة العربية السعودية، نظراً إلى عمل والده هناك، لم تبعده كثيراً عن مصر. رفض كل الفرص التي سمحت له بالهجرة. «انتمائي إلى مصر ليس إجبارياً، بل اختياري. إحساسي بالانتماء مفيد ليّا مش مفيد لمصر، مفيد إني أعرف أنا منين وفين، فين المكان اللي أنه منه، وهو بتاعي، اللي بيتي فيه، وسريري فيه، اللي بحس فيه إني وصلت خلاص مش مستني إمتى هروّح».
يمتلك عمرو سلامة روحاً متصوفة، صافية، متسامحة رغم مشاعر الثورة التي تغلبه طول الوقت. صباح بيان تنحّي مبارك، كتب على مدوّنته الشخصية: «تحية إلى الشهداء، والجرحى، والمفقودين، والناس اللي خططت للثورة، واللي اعتقلوا، وكل الناس اللي نزلت المظاهرات، وكمان الناس اللي حرست بيوتها، والناس اللي ماكنتش فاهمة وحاولت تفهم، والناس اللي كانت فاهمة غلط وغيرت رأيها، والناس اللي ما غيروش رأيهم بس عايزين يعمّروا معانا مصر من جديد، أحييهم كلهم بالتقدير والاحترام نفسيهما».
تلك الروح جعلت الشاب، الذي كان يبلغ العشرين إبان تفجيرات برج التجارة العالمي في نيويورك عام 2001، يسأل: «هل يدعو إسلامنا إلى قتل الأبرياء؟ أيّ دين هذا الذي يتحدثون عنه؟». يستنكر سلامة اعتبار الإرهاب جهاداً، والتطرف التزاماً. «أنا مسلم ليبرالي وسطي ـــ لو في حاجة اسمها كده أصلاً. أنا مؤمن بالعدالة الاجتماعية والديموقراطية والمعاني الإسلامية في مجملها، لا بتفاسيرها المتطرفة». هكذا يعرّف عن نفسه، مضيفاً: «وأعشق الفن والسينما».
صاحب «أسماء» الذي شغل المهرجانات السينمائيّة العربيّة أخيراً، مقتنع بأنّ «العسكر مهما حاولوا التشبّث بمقعد الحكم، سيكون وجودهم موقتاً. فلا بدّ من أن يرحلوا إلى ثكنهم، ولن يؤثّروا في الفن كثيراً». إلّا أنّه يتخوّف من الإسلاميين، الذين فازوا بأغلبية في المرحلة الأولى والثانية من انتخابات مجلس الشعب. «في المدى القصير، قد يؤثرون في الإبداع ببعض التحفّظ، لكن على المدى البعيد، سيكون من المستحيل التحكم في الفنّ أو قمعه». يعدّ نفسه جندياً لمصلحة حريّة الفن والإبداع، لأنّ قمعها كان من أسباب قيام الثورة، التي لم تحقق بعد كلّ أهدافها على حد تعبيره.
يعشق عمرو أدب نجيب محفوظ، وبهاء طاهر، وخيري شلبي... لكنّه يحب على نحو خاص أعمال يوسف السباعي، ما يفسر شخصيته الرومانسية حتى في السياسة. «حتى لو رأى العالم كلّه أنني رومانسي زيادة أو حالم، مش مهم. سأبقى سعيداً باختياري». دخل المخرج الشاب عالم السينما من باب الهواية. عندما صفّق أصدقاؤه بحرارة أثناء عرض أوّل فيلم قصير له كهاوٍ، قرّر أن يكمل في تلك المهنة. منذ صغره، مارس كلّ أشكال الفنّ. أحبّ الكتابة والرسم، ثمّ الخدع والمونتاج والتصوير، وكان «الإخراج هو الذي استطاع جمع مواهبي كلها في صنعة واحدة».
يجني سلامة حالياً ثمار نجاحه الذي قد يصفه البعض بالمبكر، لكنّه في الحقيقة نتاج ثقافة، ووعي، راكمهما في وقت قصير. كان في ميدان التحرير خلال الاشتباكات الأخيرة في شارع محمد محمود، حين بدأ عرض شريط «التحرير ٢٠١١: الطيب والشرس والسياسي» الذي أخرجه مع تامر عزت وآيتن أمين، وهو أول فيلم وثائقي مصري يطرح تجارياً في دور العرض المصرية. وفي الوقت نفسه، نزل شريطه «أسماء» إلى الصالات المصرية ليعيش المخرج الشاب أسعد لحظات حياته، مع عرض عملين له في وقت واحد. يتناول الوثائقي الثورة المصرية من ثلاث وجهات نظر، «الطيب» مع تامر عزت، و «الشرس» مع آيتن أمين، و«السياسي» مع سلامة. يرصد الفيلم في جزئه الأوّل المتظاهر ومعاناته، وفي الثاني الضابط وأسباب استخدامه للعنف... أمّا الجزء الثالث، فيتناول خطوات صنع الدكتاتور وسقوطه.
أمّا «أسماء»، شريطه الروائي الثاني بعد «زي النهارده» (2008)، فأحد أفضل أفلام العام بحسب النقاد. قصة الفيلم، الذي يتناول سيرة مصابة بالإيدز، وضعت المجتمع المصري أمام مرآة تكشف عيوبه، وأمراضه، وجهله. استطاع الخروج بالحكاية من طابعها الذاتي إلى آفاق واسعة، كأنّه يعالج أمراض المجتمع بأكمله، لا الإيدز فقط. ««أسماء» أهم مشاريع حياتي، تطلّب مني أكثر من خمس سنوات عمل، وهو مستوحى من قصة حقيقية عن سيدة كانت تتعايش مع فيروس الإيدز، وكانت تحارب المجتمع لتحصل على حقوقها». في رأيه، تفاعل المشاهدون مع الشخصيّة، لأنّ «كلّ واحد منّا يعيش مشكلة في مجتمعه، وقد يكون منبوذاً أو مرفوضاً في لحظة ما». في نهاية الفيلم، يكتب سلامة أنّ بطلة القصة الأصلية ماتت لأنّها رفضت أن تظهر في برنامج تلفزيوني، على عكس ما فعلته أسماء بطلة الفيلم. في رأيه «لا بدّ من أن نواجه مشاكلنا مهما كانت. أيّ مشكلة يمكن حلُّها بمواجهتها لا بالهرب منها».




5 تواريخ

1981
الولادة في الرياض
(المملكة العربية السعودية)

1996
تخرج من كلية التجارة في «جامعة القاهرة»

2001
شريط قصير بعنوان «الإعلان» أدخله مهنة السينما

2008
باكورته الروائيّة «زي النهار ده»

2011
فيلمه «أسماء» نزل إلى الصالات المصريّة، إلى جانب الوثائقي «التحرير 2011» وهو عمل جماعي