هل شهد لبنان قبل عام كامل حرباً فظيعة، من أبشع وأعنف الحروب التي عرفتها المنطقة؟ حرب كالتي ندرسها في كتب التاريخ، اندحر فيها الغزاة بعد أن ركعوا عند أقدام «قلعة الشقيف» وتحققت من خلالها الحلم العربي المؤجّل منذ أديب الشيشكلي و«جيش الإنقاذ»؟لا أذكر. من يذكر حقاً. كيف نتذكّر الحرب؟ كيف نحارب غول النسيان؟ هناك الذين عاشوا الملحمة، وذاقوا الموت والهدم المنهجيّ، المجازر والتهجير، لملموا أشلاء الأطفال وتسربوا بين ركام المنازل. هؤلاء يذكرون حتماً. لكنْ هناك الآخرون، الذين شاهدوا كل ذلك في التلفزيون، في الصور. إنّها مجرد صور برسم التحوير واعادة التشكّل والنسيان. بعضهم لن يحتفظ من تمّوز 2006 سوى بتلك الصورة التي التقطها الأميركي سبنسر بلات، في اليوم التالي لانتهاء الغارات. كابريوليه حمراء يقودها شاب «وظوظ»، في جولة سياحية بين خرائب الضاحية. مشهد دمار في الخلفية، وعلى متن «سيارة الكشف»، ثلاث صبايا Cool، احداهنّ تسدّ أنفها بمنديل أبيض! كان من «الطبيعي» أن تفوز الصورة بجائزة «الصحافة العالميّة» لعام 2006!
أشياء كثيرة حدثت منذ صيف 2006، فمن يتذكّر، وماذا نتذكّر؟
الذاكرة تعيد كتابة التاريخ على هواها. والثقافة اللبنانية، استفاقت من ذهولها بعد المعركة، أخذت تبحث لنفسها عن معنى ودور ووجود. وسط ضجيج المعارك لا يعود للكلمات من معنى، بل لنقل إن معناها يتبدّل ويتحوّل ولا يبقى نفسَه. وظيفة اللغة مختلفة في أرض المعركة، والثقافة تبدو بلا جدوى، إلا إذا اختارت الالتحاق بخنادق القتال. لهذا السبب ربما لاذ معظم الكتاب بالصمت في بيروت، فيما تعالت أصوات أقرانهم في العواصم العربية الأخرى. حمل كتّابنا جراحهم الحميمة، شعورهم باللاجدوى ربّما، ونصيبهم من الحسرة والخوف. دخلوا كلّ إلى صومعته أو سجنه الاختياري. بعضهم تطوّع في أعمال الإغاثة. بعضهم الآخر كان مقتنعاً ربّما بأنها ليست حربه!

على جدران حي الجميزة الذي فرغ من رواده الليليين، علقت يد مجهولة ــــــ يقال إنّها لفنانة من سكان المنطقة يومذاك ــــــ ملصقاً يستوحي الاتجاهات الكبرى لفن الديزاين كما تبلورت خلال حقب حاسمة من التاريخ الحديث: كتلة بشرية، بالأبيض والأسود على خلفيّة وردية غامقة، تتصاعد فتصبح قبضة مرفوعة الى السماء. القبضة تتحدّى الصاروخ الاسرائيلي الهابط. إلى جانب الصورة نقرأ: «لبنان مقاومة» وتحتها على خلفيّة صفراء: «يسمّونها حرباً على حزب الله... وكأن «حزب الله» كيان مجرد من أهل وشعب ووطن». في قبو الـ Club Social ذلك المساء، كان شربل هبر وزيد حمدان يعزفان الروك تضامناً مع ضحايا العدوان، فغطّى الغيتار الكهربائي على هدير الطائرات المغيرة...
في المقلب الآخر من المدينة سقطت القذائف البربريّة على «هنغار» جمعيّة «أمم»، وقضت على جزء ثمين من أرشيف لقمان سليم. كأننا بهذا المثقف النقدي والإشكالي، يجاهر ــــ من خلال الثمن الذي دفعه رغماً عنه ــــ بشرعيّة انتمائه للمكان: هو أيضاً (وأولاً) ابن الضاحية، أيا كانت خياراته ومواقفه...
غرقت صفحات الجرائد تحت ركام من الكلمات الميتة. نصوص قليلة أومضت هنا أو هناك، إنّه الهمس حين يعلو فوق صوت المعركة! عباس بيضون ونصّه الشهير عن المقابر الجماعيّة في «السفير» ؟ إلياس خوري استعاد في ملحق «النهار» نفسه القديم، ونثره الهادر الذي لا يشبه أدبيات رفاقه الجدد...
روجيه عسّاف الذي وجّه من الطيونة، رسائل (بالفرنسيّة) الى أصدقائه حول العالم من خلال الإنترنت، يكاد يكون مؤرخ هذا الشهر الدموي المجنون. صرنا ننتظر تلك الرسائل، قوتاً يومياً وترياقاً. بعد ذلك استعمل بعضها نواة لمسرحيّة عنيفة بعنوان «بوابة فاطمة» (مع حنان الحاج علي)، عرضها الأول جاء بمثابة صفعة لضيوف كرنفال فرنكوفوني سكسي وشيك وكول، حضره السفير الفرنسي في لبنان. ومثل عساف، جاءت كتابات رشا سلطي في يومياتها (بالإنكليزيّة) التي دارت حول العالم وتناقلتها قوائم إلكترونية لا تحصى... وصولاً الى إسرائيل.
زياد عنتر، كان يعبر، ممتشقاً آلة تصويره، بإحدى المدارس التي غصت باللاجئين، حين اقترب منه رجل منهك ورجاه أن يلتقط له صورة. يريد أن يحصل على فيزا، قال، كي يسافر إلى كندا ويرتاح من هذا البلد! وما إن سدّد زياد عدسته، حتى تجمهر الأطفال يريدون أن يتصوّروا. هكذا أمضى الفنان الشاب ردحاً من شهر العدوان، يجول على المدارس، ويصوّر بورتريهات الأطفال المهجرين.
أما جيلبير الحاج، فانتظر أن تنجلي طبقات الدخان الكثيفة عن الضاحية، كي يعود إلى «مسرح الجريمة»، ويلملم بين الأنقاض مادة معرضه «موطن 1» (Homeland 1). اختار الفنان تصوير الضاحية الجنوبية بعد العدوان، واضعاً نفسه مجدداً في منطقة الخطر: كيف يمكن أن نصوّر تلك العمارات المبقورة، والأحياء التي نهشتها أطنان القنابل، بعدما التقط الصحافيون صوراً هنا بمئات الآلاف، دارت حول العالم واستوطنت المخيّلة؟ السؤال الذي شغل جيلبير، هو كيف نؤرخ للكارثة من دون الوقوع في الاستعراضي والانفعالي، وفي الكليشيه الذي أفرزته الآلة الإعلامية العملاقة؟ النتيجة صور هادئة، ينبعث منها صمت تأملي فيه من القسوة، بقدر ما فيه من الهدوء... الذي يتلو الزلازل.
وخلال الحرب، كان هناك مازن كرباج. لا أدري لماذا تذكّرني حرب تموز بمازن كرباج. لم أكن أعرف يومها أنها بداية صداقة غريبة. كنا نستهلّ نهارنا بالدخول الى مدوّنته، ومتابعة آخر رسومه ونصوصه. ذات مرّة رسم نفسه غاضباً يشتم الطائرات من شبّاكه ليلاً، ويستلّ ريشته (على طريقة ناجي العلي)، مهدداً متوعداً: «انزلوا أيها الجبناء، سأقتلكم بقلمي واحداً واحداً!». هذا الفنان المشاغب، الهارب من القوالب الجمالية والقيَم التي تطالبه بها بورجوازية الأشرفية، عزف الترومبيت مع صوت القصف وهدير الطائرات، وسجّل المقطوعة للتاريخ... كما سجّل وقائع الحرب، من منظاره الذاتي بطريقة مدهشة. رسوم ذلك الصيف احتضنتها لاحقاً «غاليري جانين ربيز» وجهاً لوجه مع رسوم أمّه، الفنانة والناقدة المعروفة لور غريّب، التي تعود إلى المرحلة نفسها. وجمعت في كتاب عن دار باريسية، على الغلاف رسمة شهيرة له، وهذا السؤال: «أين أنت يا سماء بيروت الزرقاء؟».
مدوّنة مازن كرباج، بين مواقع ومدوّنات عدة أخرى، كانت تعلن (تؤكد؟) ولادة ثقافة من نوع جديد. ثقافة تقوم على وسائط مختلفة، وتعتمد تقنيات ومفردات وأشكال تعبير أخرى. في هذا السياق تندرج رسائل الفيديو التي نشرها موقع جمعيّة «بيروت دي سي»: «من بيروت... إلى يلّي بيحبّونا» (إخراج جماعي)، «الوقت الميت» (غسان سلهب). رسائل بالصوت والصورة من تحت القصف إلى العالم الحرّ.
تلك الحساسيّة الجديدة، كانت ساندرا داغر (فضاء SD)، أول من التقطها في الأسابيع الأولى من انتهاء الكابوس. أقامت معرضاً جماعياً بعنوان «نَفَس بيروت»، هو أول نشاط فني وثقافي بعد الحرب. ضمّ أعمالاً أُنتجت خلال العدوان، لأربعين فناناً معظمهم دون الثلاثين... إضافة الى مشاركة غريتا نوفل بإحدى لوحات سلسلة ِExodus (هجرة أو تهجير). برزت في المعرض أعمال وتجهيزات عدة (رندا ميرزا، لينا حكيم، سنتيا كرم...)، لكن «النجوميّة» كانت لـ «سوبرمان» الذي أعاد رائد ياسين إحياءه على طريقته، وللسيد حسن نصر الله الذي استوحت منه زينة الخليل عملاً سيبقى طويلاً في الأذهان.
رائد ياسين استنجد إذاً بنبيل فوزي/ سوبرمان. شرائط مصوّرة قديمة أعاد «صياغتها» وعدّل حواراتها، فصارت من صلب الراهن، وأضاف إليها شريطاً صوتياً من النوع الذي يبرع به، بين أغنيات أسمهان وأزيز الراديو وصوت القنابل! أما زينة خليل التي سبق أن تلاعبت مراراً برموز الحرب الأهليّة، وتلاعبت بها بسذاجة طفوليّة محيّرة... فقد اكتشفت في الحرب أن «السيّد» بطلها. هي لا تحبّه في الأصل بشكل خاص، كما فهمنا وقتها من النص المرافق للعمل. لكنّه فرض نفسه عليها، اقتحم حياتها، ومزاجها الطفولي المغترب عن صخب الواقع السياسي. هكذا حوّلته إلى نجم Pop Art، تماماً كما فعل من قبلها إندي وارهول بالعمّ ماو وبـ... مارلين مونرو!
مطلع الصيف الجاري عادت ساندرا لتخوض مع صالح بركات (غاليري «أجيال»)، تجربة مهمّة على المستوى العالمي: إقامة جناح خاص بالفنّ اللبناني، في بينالي البندقيّة، لأول مرة في تاريخ التظاهرة العريقة. هذا الجناح الذي ما زال مفتوحاً للجمهور حالياً في الجزيرة الايطالية، يعرض (من جملة أعمال أخرى سنعود إليها) مشروعين لافتين مرتبطين بحرب تموز. الأول حققه الفنان فؤاد خوري الذي صاغ يومياته الحميمة في 34 مرحلة فوتوغرافيّة، على خلفيّة قصّة حب مأزومة. «عن الحرب والحب» سلسلة صور مميزة، بقدرتها على التقاط الهامشي والخاص والحميم، أعاد فؤاد «صياغتها» فنياً، وكتب فوقها أو داخلها جملاً ونصوصاً وكلمات، عن الحب والانتظار واللحظة المعلّقة... في زمن الحرب.
العمل الثاني المتعلق بحرب تموز في البندقيّة، هو تجهيز فيديو تفاعلي يحمل توقيع لميا جريج: «لعبة حكايات/ أنا الحكايات». ثلاثة مشاهد صوّرتها خلال الحرب، واستعملتها في فيلم سابق بعنوان «أيام وليالي» (١٧ دقيقة)، وثلاثة نصوص كتبتها في الحرب أيضاً، ومقطوعات لفنانين شباب... وبإمكان المشاهد أن يختار توليفته، بين نص ولقطة فيديو ومقطوعة... تعالوا العبوا بمشاعري وأحاسيسي وذكرياتي في الحرب، تقول لميا للمتفرّجين. تعالوا نتشارك في ذكريات تموز 2006.
ولعل الفيديو هو شكل الكتابة الأكثر حضوراً في دوامة الصيف الماضي، والأكثر قدرة على التعبير عن وجدان الجيل الجديد ومزاجه، والأقرب الى التقاط اللحظة بفجيعتها وعاديتها. هذا الأمر فهمته كريستين طعمة ورفيقاتها في «أشكال ألوان». إذ نظمن تظاهرة «فيديو أفريل» التي تكرس تلك «الكتابة الجديدة» كنوع مستقل، له أصوله ومبدعوه وجمهوره. احتضن المهرجان أعمالاً من أشكال وأحجام مختلفة، بعضها بتوقيع مبتدئين... معظمها «يقارب مرحلة حرب تموز وما بعدها». هكذا اكتشفنا أعمال علي شرّي «مبني على السكون» (12 د)، وعلي قيسي «رأفت الهجّان الثالث» (14 د)، ورامي صبّاغ «ملليغرام من الدم الفاسد على ثلج نقي أبيض» (20 د)، وروي سماحة «أرجو استرجاعي لاحقاً» (33 د)، ووائل نور الدين «رحلة تمّوز» (35 دقيقة)... إضافة الى «آخر أيام الصيفية» (80 د)، وهو عمل جماعي شارك فيه تسعة فنانين شباب بإشراف غسان سلهب.
وبين الأعمال التي ستبقى من تلك المرحلة، نشير الى فيلم محمود جحيج «بإمكانك الدخول» (22 دقيقة). فيه يعود حجيج إلى بيت أبيه الذي اجتاحته همجية الجيش الاسرائيلي، ليسأل، ليتصالح مع جزء منه. بلغة اختبارية عوّدنا عليها، يجمع بين مستويات سردية مختلفة. يلعب لعبة المباشرة، ويتدارى منها في الوقت نفسه. يحتمي من فخّ الواقع، فيصوّر آثار العدوان، وشهادات الناس، من زاوية خاصة، واضعاً الكاميرا دائماً حيث لا نتوقّعها. وفي «مجرّد رائحة» (7 دقائق)، يحقّق ماهر أبي سمرا أحد أهمّ الأفلام التي طلعت من جرح تموز. الفيديو بالأبيض والأسود، يقتصد في اللون، يقتصد في الحركة، يقتصد في الكلام... كأنما ليقول هول المجزرة وفظاعة الحداد. لقطات ثابتة وقليلة، فيها من العنف المضمر، والقهر المبطّن ما يتناقض مع الهدوء الظاهري. أهالي قرية جنوبية يبحثون في الأنقاض. تطلع صرخة ملتاعة من مكان مجهول، يواصل الرجال بحثهم عن الموت. لقطة أخرى لبيروت شبه الممحوّة من البحر، من إحدى السفن الآتية لإجلاء الرعايا الأجانب.
أما غسان سلهب فيرثي المدينة في فيلمه «بعد الموت» (28 دقيقة). يعيشها بعد موتها من خلال آثار الحرب والدمار، تداعيات وتأملات فلسفيّة، لقطات ثابتة لوجوه مقلقة حائرة أو عدائيّة مطبوعة فوق المشهد أحياناً. جنود اسرائيليون يتقدمون. الخراب ورفع الردم. الكاميرا تجول في بيروت والضاحية والجنوب. اللقطات تسير إلى الخلف، وتختلط بسواها. يكتب غسان على الصورة أو بمحاذاتها، يطعّم مشاهده بنصوص نادرة تعطي للسؤال الحائر اليائس كل أبعاده.
«ولكن كيف للأموات أن يشاهدوا موتهم؟» يسأل سلهب الذي يبني عمله على مستويات سرد متعددة. ويطرح سؤالاً لعلّه السمة المشتركة لمعظم الأعمال الإبداعية التي أنتجت خلال حرب تموز وبعدها: كيف نصوّر الفاجعة؟ كيف نرويها؟ وهل تتسع الصورة للحقيقة... أم انها ذاتيّة بامتياز؟ ولأنها ذاتيّة نقبل عليها، باحثين بين طيّاتها، عن ذواتنا المطعونة؟


بين أفلام الحرب الأخيرة، هناك عمل يبحر عكس التيار، بعنوان «حرب الـ 34 يوماً». مخرجته كارول منصور، اختارت الابتعاد تماماً عن التجريب، وقررت الامِّحاء وراء فظاعة العدوان، فجاء شريطها الوثائقي واقعياً، ومباشراً. تعمّدت أن تكون الصور فجّة كي تصدم الوعي العربي والغربي، فأعادت الريبورتاج إلى وظيفته الأولى: التوعية السياسيّة. في فيلمها الميداني عن حرب تمّوز، نُشاهد الأشلاء والجثث والخراب، نستمع إلى شهادات المواطنين المنكوبين والمصممين على الصمود. يرافقنا تعليق كارول منصور، بصوت هادئ تشرح، تعطي الأرقام، وتفسّر الوقائع. تروي «الحدّوتة»... بل الملحمة! فيلم «حرب الـ 34 يوماً» وظيفته «تربويّة» أوّلاً، وقد قامت صاحبته بتوزيع نسخ منه على دائرة واسعة من السياسيين اللبنانيين، شهادةً صارخة عن زمن البرابرة.
الفيلم يعرض هذا المساء في «متروبوليس» (الحمرا) عند السابعة والنصف (النسخة العربية)، والثامنة والنصف (النسخة الإنكليزيّة). للاستعلام: 01،753-010

* غداً مقالة حسين بن حمزة: أيها الشعراء، كيف «نجحتم» في تجاوز الكارثة؟