في غرفة العمليات المركزية، جلس الحاج (ا. م) والى جانبه قائد الوحدات البرية الحاج (م) ومسؤول القطاع الأول الحاج (ج) وآخرون من وحدة الاستخبارات الميدانية في المقاومة. على الطاولة الخشبية كانت بضعة فناجين من الشاي وفاكهة صيفية. لم يتوقف (م) عن إطلاق النكات. كان عليه أن يتذكر أنه نجا للمرة العاشرة بعد المئة من عملية رصد يقوم بها العدو له في المنطقة الحدودية. لكن أعباء المهمة تفرض حركة مكثفة هذه الأيام.قال ( ا.م): «لقد التزم السيد حسن مجدداً أمام الجمهور بأن عملية أسر سوف تحصل. هذا يلزمنا بعمل إضافي لتحقيق الهدف والحصول على النتيجة المطلوبة: أسر جنود تهتم إسرائيل لأمرهم (أي ليسوا من أصول عربية) وهم أحياء».
منذ وقت غير قصير والاستعدادات لعمل من هذا النوع لم تلامس النجاح الكامل. في بعض الأحيان، كان الهدف يتحرك في منطقة تحتاج الى ترتيبات عملانية معقدة. وفي أحيان أخرى، كانت التحذيرات العلنية من جانب المقاومة تفرض استنفاراً دائماً لجنود العدو. لكن ذلك لا يمنع من التدقيق في الإجراءات وصولاً الى الثغرة التي يمكن النفاذ منها. هكذا هي معادلات المقاومة: كل إجراء للعدو فيه ثغرة، والمهم تشخيصها بدقة وعدم ارتكاب أي خطأ في التقدير ولا في التوقيت.
في أذهان القادة تجري مراجعة دائمة بشأن التجارب السابقة. آخر المهمات الكبرى، كانت في بلدة الغجر. أعدت المجموعات لتنفيذ عملية من النوع الجديد. اقتحام صاعق لمواقع ثابتة، تحت تغطية غير مسبوقة من القصف المدفعي المركز والشامل لكل نقاط التحرك من جانب العدو. كان المئات من المقاتلين في وضعية استعداد لتنفيذ أضخم عمليات الاقتحام. سيارات مدنية ذات طابع عسكري جهزت بالقرب من المكان دون أن يلتفت أحد للأمر. فرضت المقاومة حركة روتينية لمقاومين وسيارات حتى صار المشهد مملاً: مقاومون يرصدون بصورة رتيبة المشهد المقبل، يتهامسون ثم يختفون.
يوم تقرر تنفيذ الهجوم، احتاج المقاومون لدقائق معدودة لكي ينجحوا في شل حركة كل المواقع الاسرائيلية في المنطقة والتلال المشرفة عليها. كان القصف عنيفاً وكثيفاً جداً. وكان رماة الصواريخ المضادة للدروع يحرقون الآليات العسكرية على شكل لعبة «أتاري» كما قال السيد نصر الله لاحقاً. ثم اقتحم مقاومون بسيارات رباعية الدفع وعلى دراجات نارية المكان. وحمل أحدهم للمرة الاولى في تاريخ المقاومة سلاحاً جديداً هو «ب ـ 29» وهو الجيل الجديد من السلاح الروسي التقليدي «ب ـ 7». الرشاشات لا تتوقف عن إطلاق النار في اتجاه الدشم والكمائن المفترضة. لكن خللاً برز في عملية الرصد. وأدى إلى نشوب مواجهة غير محسوبة. مرت دقائق قبل أن تقع مجموعة من المقاومين في كمين أدى الى استشهاد أربعة منهم.
الاتصالات مع القيادة المركزية أشارت الى الفشل. جرى العمل بسرعة على سحب مجموعة العمليات من أرض المعركة، فيما بقيت مجموعات الجهوزية الخاصة بمواجهة أي ردة فعل للعدو في حالة استنفار قصوى. في هذا الوقت، كان الإسرائيليون يتفقدون جنودهم عبر اتصالات لاسلكية مكثفة، وكعادته تأخر الطيران للوصول الى المنطقة. وعندما تلقت قيادة المنطقة الشمالية أنباء المواجهات والنتائج، تأكدت من أن أي جندي لم يفقد. تنفس قادة العدو الصعداء. وقرروا الرد موضعياً. مرت ساعات قليلة وعاد الهدوء الى المكانمر وقت طويل على عملية الغجر. عملية استخلاص العبر تكثفت لدى قيادة المقاومة. السيد نصر الله الذي لطالما واجه أوضاعاً من هذا النوع، وقف على خاطر المسؤولين عن العملية. وعلى طريقته، أكثر من «الحمد لله سائلاً إياه العون على إنجاح مهمة أخرى». أما القادة المعنيون فلم يفارقهم التوتر لأيام طويلة. كان الوجوم قائماً، وإن رافق مراجعة سريعة والبدء بالعمل من جديد.
بعد الخامس والعشرين من أيار عام 2000، باشر المقاومون عملية رصد للحافة الأمامية الجديدة. كانت الثغر كبيرة في حركة جنود العدو. لكن تحذيرات قيادة المقاومة العلنية إزاء الأسر كانت أكثر حضوراً، والإجراءات الاحترازية لم تكن كافية لسد الثغر. وبعد شهور قليلة من المراقبة اللصيقة، حددت نقطة العملية الشهيرة عند بوابة شبعا قرب بركة النقار. يومها جرت عملية كلاسيكية. مرت مركبة معادية وفجرت بها عبوة ناسفة كبيرة. الانفجار الكبير دمر السيارة غير المصفحة بخلاف ما هو متوقع. قتل الجنود لكن جثثهم حُملت على وجه السرعة في سيارة نقل رباعية الدفع. وخلال أقل من نصف ساعة، كان كل شيء قد انتهى.
أقل من ستّ سنوات مرت على تلك العملية. بدا من الوقائع الميدانية بعد عملية الغجر، أن استنفار العدو ارتفع الى مستويات غير مسبوقة. كان على المقاومين إنهاك جنود العدو دون توقف. عمليات التحرش المنظمة بالسلك الالكتروني فرضت على دوريات العدو عدم التوقف عن عمليات التفقد. كانت هناك حاجة كبيرة لمراقبة آلية العمل من جانب العدو: نوع السيارات المستخدمة، عدد الجنود في كل منها، الحركة الروتينية أو المفاجئة، هامش المناورة أمام الجنود وآلية الاتصال بينهم وبين قيادتهم، ومستوى الاستعداد القتالي. وكيفية التصرف إزاء ما يحصل على السياج. اختبارات كثيرة حصلت. وعندما وجدت قيادة المقاومة أنه لا مناص من توسيع رقعة العمل، كانت الطبيعة عاملاً مساعداً في القطاع الغربي من الجبهة. ومر وقت قبل أن تتأكد قيادة المقاومة من أن هناك فرصة جدية لتنفيذ عملية خاطفة. كانت الصورة واضحة في أن العمل سوف يكون مشابهاً بقوة لعملية شبعا الشهيرة. ليس مطلوباً القيام بعمل عسكري اقتحامي كبير. ولكن المطلوب عملية ذات بعد أمني. ما يعني أن على وحدة الرصد أن تقدم المعلومات الكافية التي تمنع أي نوع من المفاجآت. وحقيقة أن الهدف هو أسر جنود أحياء، فرضت آلية من العمل العسكري. لم يكن على المقاومين عدم إطلاق رصاصات قاتلة ضد الجنود، ولكن كان عليهم استخدام آليات من العمل التي تتيح قتل البعض وترك البعض الآخر على قيد الحياة. وبالتالي فإن درس عملية شبعا النظري مهم في هذه اللحظة: إعطاب آلية دون قتل من بداخلها، وتدمير آليات الدعم وقتل من يتحرك لنجدتها.
مرت أسابيع عدة على المراقبة اللصيقة للنقطة. ذات يوم عبر المنطقة ضابط إسرائيلي برتبة عالية،هو اودي ادم ، لم يكن وحده، بل كانت معه عائلته. ولم يكن هدفاً جدياً في تلك اللحظة. المقاومون الذين دربوا على تنفيذ الهجوم، وأعدوا له ما يجب من أسلحة وخطط هجومية وأدوات، باتوا لياليهم الطويلة وراقبوا لنهارات عدة قبل أن تظهر في الأفق ملامح الهجوم الناجح. كانت المعطيات الاستخبارية لدى المقاومة تشير الى اقتراب لحظة التبديل في عمل الكتائب المنتشرة هناك. كانت نقطة العملية قد تحولت الى نقطة أكثر ضعفاً من الفترة السابقة. الاسترخاء ظهر على حركة الجنود وقيادتهم، وموعد التبديل اقترب. لكن المفاجأة جاءت على شكل معلومة وردت الى قيادة المقاومة، بأن الكتيبة الدرزية سوف تتولى المهمات خلال 48 ساعة. وهذا يعني أن العملية قد تنجح، ولكن الجنود المفترض أن يقعوا في الأسر سوف يكونون من أصول عربية، كانت المقاومة تبحث عن صيد من صنف آخر. ما استدعى الاستنفار بطريقة مختلفةيوم 12 تموز، لم يكن الاستنفار على الحدود شبيهاً بما سبقه. انتبه حزب الله إلى أن إسرائيل صارت تدقّق في أشياء كثيرة. وفي كل مرة ينوي الحزب القيام بعمل ما، كان عليه إبلاغ جميع نقاط المراقبة والمراكز العلنية بوجوب الإخلاء، . كبر جسم المقاومة، وباتت الحركة غير قادرة على الإخفاء كلياً. وتحدث الاسرائيليون كثيراً عن «إنذارات أو إشارات الى نية حزب الله القيام بشيء». كان البعض يعتقد ولا يزال، بأن اسرائيل تستند الى معطيات استخبارية من النوع الذي يصنّف عادة في خانة الخرق. لكن قيادة المنطقة الشمالية، كانت تكتفي بملاحظة لأحد مواقعها عن تقلص مفاجئ في حركة المقاومة، حتى تتصرف على أساس أن هناك شيئاً ما يتحضر.
في ذلك اليوم لم يكن القرار على نفس المستوى، لم تتلق وحدات المقاومة المنتشرة على طول الحدود وخلفها إنذاراً مسبقاً أو أمر عمليات موحداً حيال ما يمكن أن تنفذه مجموعات خاصة قرب عيتا الشعب أو قبالة مستعمرة زرعيت، بينما كانت الوحدات المكلفة العمل تتصرف على أساس أنها المعركة:
في مسرح العملية، انتشرت خمس مجموعات من المقاومة، تولت واحدة أمر الهجوم المباشر بواسطة القذائف الصاروخية، وتولت أخرى توفير الغطاء الناري بواسطة الرشاشات الخفيفة والمتوسطة، بينما تولت ثالثة قصف النقاط العسكرية ذات الحساسية المباشرة بالعملية، وكانت مهمة الرابعة تجاوز الحدود بعد تفجير البوابة الحديدية بواسطة عبوة خاصة وتسهيل دخول بسيارة مدنية لنقل الأسرى. اضافة الى تعطيل حركة الجنود وفتح أبواب السيارات العسكرية،
وفي مكان يصعب التأكد ما إذا كان قريباً أو بعيداً عن المكان، كانت الفرق الأخرى جاهزة أيضاً. سيارات مدنية اخرى فيها من يقوم بعملية الاسعاف لاي جريح يسقط من المقاومة او من الاسرى. كذلك جهزت غرفة عمليات جراحية خاصة مجهزة بكل ما يتطلبه أمر إجراء عمليات جراحية للجنود الإسرائيليين إذا أصيبوا بجراح خفيفة أو قاسية. وبرادات خاصة لحفظ جثث الجنود إذا ما قتلوا. غرف مخصصة لإيواء ضيوف من هذا المستوى إذا ما تم أسر الجنود احياء.
عند اقتراب الدورية من نقطة الهجوم، كانت الخطة تقضي بمحاصرتها بالنيران في أكثر النقاط ابتعاداً عن أعين الرقابة الاسرائيلية. لم تكن العملية تحتمل أي نوع من الخطأ أو أي نوع من البطء. ولما تم التأكد من وجود سيارتين وأن تصفيحهما جيد، وأن بداخلها أكثر من ستة جنود، أُبلغت القيادة الميدانية بواقع الأمر. ولم يتأخر الجواب بإعلان الاستعداد للتنفيذ. وهو إعلان لا يشمل فقط المجموعات التي تولت الهجوم الصاعق، بل يشمل وحدات أخرى، سواء على مستوى الجبهة أو على مستوى المناطق الخلفية.
«وصل الهدف الى نقطة المقتل» كما يقول المقاومون. أعطيت الإشارة ببدء الهجوم. السيارة الخلفية تعرّضت لقصف صاروخي مباشر أدى الى تدميرها بالكامل وقتل وجرح من بداخلها. لم تصدر عنها أي حركة بينما كانت هناك مجموعة تتولى أمرها، لا توقف الصليات المباشرة في ما بقي من الهامر التي أضحت في أقل من 3 دقائق كلعبة أطفال محطمة. أما السيارة الأولى، فكانت هي أيضاً في مرمى النيران. لكن الإصابات أخذت شكلاً مختلفاً. كان المقاومون قد تدربوا على كيفية إصابة سيارة مصفحة دون إحراقها بالكامل، وكيفية توجيه الصليات الغزيرة من النيران باتجاه جنود مدججين بالسلاح دون إصابتهم إصابة قاتلة.
الهدف الرئيسي للمهاجمين كان الهامر الأمامي، كانت الخطة تقضي بأسر الجنود من داخله. لذلك حرص المقاومون على أن تكون صواريخهم الموجهة نحوه غير قاتلة في إصابتها. استنتج الجيش الإسرائيليلاحقا بان خطة المقاومة كانت ترمي إلى استهداف الهامر بطريقة تؤدي إلى احتجاز الجنود داخله.
أطلق المقاومون ثلاثة قذائف صاروخية من طراز "آر بي جي" باتجاه الهامر، فانفجرت في الجانب الذي يجلس فيه غولدفاسر وريغيف، وأدت إلى إصابتهما بجراح. في هذه اللحظة تمكن الجنديان الآخران، موعادي وفاينبرغ، من الفرار خارج الآلية وتوجها نحو حرش محاذ للطريق ليختبآ داخله.
كانت القاعدة تقول بأن الجنود إما يهربون من السيارة بعيداً حيث يأخذون مكاناً مناسباً للمواجهة، أو يبقون داخل المركبة بانتظار النجدة. كان تسليح وحدة الاقتحام يتضمن آلات حادة مخصصة لفتح أبواب مغلقة أو خلافه. لم يكن أمام الجنود الأربعة في سيارة الهامر الأولى فرصة لالتقاط الانفاس. خرج جنديان من السيارة باتجاه حرج قريب. بحثا عن مكان آمن ولم تظهر منهما أي حركة كما يفترض أن يبدر من جنود في معركة. شيء ما حصل خلال أقل من دقيقة. الجنديان الآخران أصيبا بجراح مختلفة. اقتربت مجموعة من المقاومين من الآلية المشتعلة وسحبوا منها الجنديين، غولدفاسر وريغيف، فيما كان آخرون يفجرون البوابة الحدودية القريبة، لتنْقض عبرها السيارة التي سرعان ما اختفت في «المنطقة الآمنة» حيث لا يمكن للعدو أن يلحق بها. وبينما كانت مجموعات المقاومة تعمل على الانسحاب بسرعة مذهلة مخلفة قتلى وجرحى ودماءً، كانت عمليات التبديل قائمة خلف الحدود بمسافة طويلة. ولم يمض وقت طويل جداً، حتى وصل الأسيران الى حيث تختفي آثارهما حتى يوم التبادل.


تلقّى السيّد «الهدية» وشاهد العملية مصورة
لا يقرّ السيّد حسن نصر الله بعد ما الذي كان يفعله أثناء تنفيذ العملية. لكنّ مساعده لم يرفع نظره عن الهاتف. لم يكن يعرف ما الذي يريده نصر الله منه اليوم، عندما ألحّ عليه عدم إهمال أي اتصال من جانب القيادة العسكرية. وفي لحظة العمل، يجب تقليص هذا النوع من الاتصالات، برغم كل شبكات الأمان الخاصة التي تتطلب جهداً لا يزال العدو حتى اللحظة يحاول الإحاطة به، حيث السؤال: كيف يتمكن نصر الله، من أن يتحدث من مكان مجهول في بيروت الكبرى مع نقطة المراقبة الحدودية الموجودة على بعد متر واحد من فلسطين المحتلة، وأن يكون هو ومن يتحدث معه على اطمئنان إلى أنه لا أحد يسترق السمع؟
استغرق الإعداد للعملية أربعة شهور على الأقلّ. كان السيد نصر الله على ثقة غير عادية بأن المهمة سوف تنجح في مكان على طول خط المواجهة. وبعد أقل من ساعة على بدء العملية، تلقى السيد الاتصال الأخير: الهدية وصلت! لم يكن ممكناً فهم فحوى بقية الحديث، لأن نصر الله أطلق رشقات سريعة من الأسئلة: هل سقط لنا شهداء وهل أصيب أحد من الاخوان، هل الأسيران على قيد الحياة. هل تسير الامور وفق ما هو مقرر. وما هي تقديرات القيادة الميدانية لردة فعل العدو. وما هو الوارد من غرفة الرصد الخاصة بإعلام العدو العام أو الخاص. وما هو الوضع على الحدود الآن؟
بالتأكيد لم يكن نصر الله في مكتبه في تلك اللحظات. وبعد ساعات لم يبق أحد من قيادات المقاومة لا في مكتبه ولا في منزله، فيما كانت الوحدات القتالية تستعد جنوباً لاحتمال توسع ردة فعل العدو. وكانت التعليمات توصي بعدم الانجرار الى مواجهة شاملة، بانتظار تبيان حجم القرار في تل أبيب.
لاحقا، حضرت الى مكتب السيد نصرالله مجموعة من قيادة المقاومة. اعدت الغرفة على عجل، وشاهد الجميع شريط فيديو خاصاً بالعملية. كانت التفاصيل كاملة، وبعد دقائق اخفي الشريط وحتى اللحظة، لم يشاهده احد حتى من قام بتصويره.