«اللي بقلبي ما بقوله والرب عالي ما بطوله...»تلك كانت العبارة التي أجابت بها زينب عن سؤال والدتها: «أين أبوك وأخوك وأبناء أخيك؟» حين لاقتها في قرية شيحين. كان ذلك بعد مرور ساعات على وقوع مجزرة مروحين التي استشهد فيها 13 فرداً من عائلة العبدالله، ستة أفراد من عائلة غنام وامرأة من عائلة أبو هدلة ونجت منها زينب وابنة أخيها لارا وابنا خالها.
كانت زينب حينها تتقيأ دماً يخنق كلماتها. اليوم هي تحكي بصوت ما زال متهدّجاً، يرتجف على وقع ذكرى المأساة:
«في اليوم الرابع للعدوان، استيقظ أهالي مروحين على تحذير بثّته إسرائيل من مكبّرات الصوت تدعو فيه أهالي البلدة إلى إخلائها في ظرف ساعتين، التجأ الأهالي إلى قوات الطوارئ للاحتماء بهم فرفضوا استقبالهم. عندها، توجهت الأسر التي تملك سيارات، وهي قليلة في هذه القرية التي يقطنها مزارعون فقراء يعيشون من زراعة التبغ، باتجاه صيدا وصور. أما من لا يملكون سيارة، فقد احتموا في الملاجئ وفي بيوتهم.
لسوء حظ أبو كامل العبدالله أنه كان يملك «بيك ـــــ أب». تشاور مع أم كامل، فالأحفاد جميعاً في عهدتهم، ووصلوا منذ عدة أيام فقط لقضاء إجازة الصيف عندهم. آثرت أم كامل أن تبقى في قرية «أم التوت» لتظل قريبة من البيت والرزق، فهم يملكون «فرساً ودابة وحقل تبغ وحقل زيتون بالإضافة إلى المنزل»، على أن يأخذ أبو كامل باقي أفراد الأسرة إلى صور حيث سيكونون بأمان أكثر. ركب أفراد عائلة أبو كامل وبعض أفراد عائلة أبو غنام معه في «البيك ـــــ أب»، بينما تبعتهم سيارة من عائلة أبو هدلة من قرية أم التوت. مرّوا في شيحين وكفرحتا وشمع إلى أن وصلوا إلى كوع البيّاضة، هناك تعطّل محرّك «البيك ـــــ أب».
نزل أبو كامل وفتح غطاء المحرّك محاولاً معرفة سبب العطل. مرّت دقائق ثقيلة دوّى بعدها الصوت. «قصفونا من البحر» تقول زينب، تكمل: «لم أشعر بنفسي، دفع بي الضغط إلى خارج «البيك ـــــ أب» وكأنني انفصلت عن نفسي. صرخت لأبي، قلت له ضربونا، فلم يردّ علي. نظرت حولي إلى أجساد عائلتي المبعثرة، لم أقوَ على لمس أحد منهم لأتأكد إن كان لا يزال حياً. أُصبت في بطني وفي كتفي وفي فخذي. نزعت عن رأسي المنديل وربطت به رجلي وقمت أمشي، فسمعت صوت ابنة أخي كامل، لارا، تناديني لآخذها معي. تبعها نداء ابنة خالي. حضنت الطفلتين ومشيت».
مشت زينب، الشابة ذات الثمانية عشر ربيعاً، نحو ساعة ونصف الساعة، ممسكة بيدي الطفلتين اللتين لم تكلّا عن الصراخ لأمهما. فقدت الأمل في أن تعيش، كان همّها الوحيد إيصال الطفلتين إلى أقرب قرية.
في قرية شمع، التقت بمزيد من النازحين فحذّرتهم من متابعة الطريق وأخبرتهم عما حصل لعائلتها. نقلوها إلى شيحين حيث فتح أهالي القرية بيوتهم واتصلوا بأم كامل ليخبروها أن ابنتها زينب وحفيدتها لارا، التي تبلغ خمس سنوات من العمر، موجودتان عندهم. هرعت الوالدة لملاقاتهم، ثم استدعت الصليب الأحمر لينقل زينب إلى المستشفىمرّت سيارة الصليب الأحمر قرب كوع البياضة في الوقت الذي كانت فيه قوات الطوارئ قد بدأت بلملمة الجثث والأشلاء، صرخت أم كامل بالسائق راجية منه أن يتوقف لتنزل وتتفقّد بنفسها أفراد أسرتها ومن بقي منهم حياً ومن مات، لكن السائق لم يرضَ خوفاً عليها. أودعت الأم ابنتها في مستشفى أحيرام في صور وهرعت تدور على المستشفيات بحثاً عن زوجها وأحفادها. صاحَبَها بعض أهالي قريتها، وارتبكوا من هول الصدمة عليها فأجّلوا إخبارها أنها فقدت معظم أفراد العائلة، إلى أن استجمع أحدهم شجاعته وقال لها: «عشو عم بتفتّشي، خلص صاروا بالبرّاد، بمستشفى صور الحكومي».
أما زينب، فبعد خضوعها لعملية جراحية في مستشفى أحيرام، تكفلت النائبة بهية الحريري معالجتها ونقلتها إلى مستشفى غسان حمود في صيدا حيث عولجت لمدة ستة أيام.
وقعت مجزرة مروحين نحو الساعة العاشرة صباحاً، إلا أن سيارات الصليب الأحمر لم تستطع الوصول إلى موقعها، فإسرائيل ظلت تقصف أي شيء يتحرك في المنطقة حتى الساعة الرابعة من بعد الظهر حين تمكّنت قوات الطوارئ من نقل الجثث إلى مستشفى صور الحكومي. خلال ذلك الوقت، كان الإعلام قد بث الخبر. عرف الأهالي والأقارب الخبر من التلفزيون. كامل كان في بيروت، وكان قد اتصل بزوجته سناء، الحامل، قبل أن تنطلق في البيك ـــــ أب مع ابنتيهما لارا ولمى وأولادهما علي وحسن وحسين ومحمد. لا تزال آخر جملة قالتها له عالقة في ذاكرته: «قالت لي دير بالك عحالك. كإنو قلبها كان حاسسها». حين سمع الخبر، تيقّن أنها كانت تشمّ رائحة موتها الوشيك، لكنه لم يستطع الوصول إلى صور حتى اليوم الثالث بعد المجزرة، في الموعد المحدد لدفن الوديعة، فالطريق كانت مقطوعة.
تؤكد زينب أنه كان من الممكن إنقاذ المزيد من الركاب لو سُمح لسيارات الإسعاف بالوصول إلى مكان المجزرة قبل فوات الأوان. فوسام، ابن خالها الذي يبلغ الخامسة عشرة من عمره، كان معهم في البيك ـــــ أب. اختبأ تحت شجرة بعد الصاروخ الأول الذي أطلق عليهم وغطّى نفسه بالحشائش مقلّداً التمويه الذي يقوم به العسكر، ثم تمدّد قرب أجساد أسرته. أخبر والده لاحقاً أن جدة زينب تأخرت لتلفظ أنفاسها الأخيرة. لكنه لم يخبر زينب، فهو يتكلم قليلاً منذ ذلك الوقت، وحين يتكلم، يرفض الحديث عن ذلك اليوم الدامي، حين نادته أخته لينقذها فوقع الصاروخ الثاني في المسافة التي تفصل بينهما، لتقضي الأخت في ساعتها، ويعود هو أدراجه ليختبئ في انتظار حضور الإنقاذ.
ما زالت زينب تتّشح بالسّواد، تكسره أحياناً ابتسامتها الشابة التي تتشبّث بالحياة، لكن الألم ما زال يعتصرها. تبكي أباً كان أهم ما في حياتها لأنها ابنته الوحيدة بين ثلاثة أبناء: «أصبح في الستين من عمره من دون أن يتهنّى يوماً في حياته. ليته بقي بساق واحدة لكنت رعيته حتى آخر يوم في حياتي. أفتقد إلى نَفَسه في المنزل».
وبالإضافة إلى حسرة فقدان الأب، تتملّك زينب حسرة فقدان أبناء الأخ، فهي التي ربّتهم. تغصّ كلما تذكّرت كوب الحليب الذي طلبته منها ابنة أخيها لمى قبل أن يركبوا البيك ـــــ أب: «ماتت قبل أن تكمله».
الأخت لمى، والأم سناء، هما أكثر من تفتقده لارا. ما زالت طفلة السنوات الخمس تذكر كيف بكت لمى وهم في طريقهم إلى صور، تطلب ما يطلبه جميع الأطفال: «بدي إشتري». كانت تجلس على ركبة جدتها التي طمأنتها: «لما نوصل ع صور منشتري». إلا أن لمى لم تصل. ماتت. تقول لارا: «ماما كمان ماتت». عرفت أنها ماتت حين رأت الدم يغطّيها.
لكنها ما زالت تزورها في الحلم: «شفتها بالسما. وقالتلي تعي لعندي كل يوم عالجنة». رأتها في الحلم مرتين، ورأت جدّتها مرتين. في أحد الحلمين كانت تجلس إلى جانبها في «البيك ـــــ أب» وطلبت من جدها أن تجلس في المقعد الأمامي إلى جانبه لأنها كانت خائفة في الخلف، لكنه لم يرض.
تمتزج الحقيقة بالحلم في ذهن طفلة رأت الكثير من الدم باكراً. تهرب إلى الحلم، وتستدعيه ليخفف من حدة الصدمة التي يعجز خيالها عن استيعابها. تحاول فهم المعطيات التي تتخطى وعيها وإدراكها، فتبحث عن أسباب وهمية أحياناً من دون أن تدرك ما تفعله. تمارس ذلك حين تسرد روايتها الخاصة للحادثة: «كنا آتين لقضاء الصيف عند تيتا وجدو. بابا يشاهد الأخبار كل يوم مساء، لكنه لم يعلم هذه المرة من الأخبار أن حرباً ستقع، فأتينا إلى الضيعة بعد أن تقاضى راتبه، ثم بدأ القصف فخفنا واختبأنا في المكان الذي تخبز فيه جدتي».
يتعلّق جميع من بقي حياً في هذه العائلة بذكرى من مات منهم. رجاء العبدالله، أخت سناء، تنتظر مولودة ستسميها على اسم أختها. لم تغادر مروحين هي وأطفالها الخمسة قبل وقوع المجزرة لأن زوجها لا يملك سيارة، وسيارة الأجرة كانت لتكلّف 500 ألف ليرة. التجأت مع من التجأوا إلى قوات الطوارئ الذين رفضوا استقبالهم فعادت واختبأت في منزلها. فقدت أختها وأبناء أختها ووالدتها وعلمت باستشهادهم من التلفزيون، ثم لم تستطع توديعهم إلا في اليوم التالي للمجزرة حين قصدت صور للتعرف إليهم في برادات المستشفى الحكومي في صيدا.
في بطن رجاء طفلة ستصبح سناء، وفي حلق زينب وأم كامل غصة لفقدان الأب والزوج، أما الطفلة لارا، فتحت إبطها تستقر شظية حذّر الأطباء من استئصالها لأن ذلك قد يعرّضها للشلل، وفي مخيلتها الصغيرة ترزح صورة هي أثقل من أن تحملها طفلة في العام الخامس من عمرها.


شهداء المجزرة
مصطفى محمد غنّام، حسين محمد غنّام، حسن كامل العبدالله، قاسم محمد غنّام، ميرنا محمد العبدالله، زهرة محمد العبدالله، محمد علي العبدالله، زينب محمد غنّام، سهى محمد غنّام، سناء محمد العبدالله، صبحية حسن العبدالله، مريم إبراهيم العبدالله، لمى كامل العبدالله، هادي العبدالله، محمد كامل العبدالله، حسين كامل العبدالله، الحاج علي كامل العبدالله، محمد موسى غنّام، لطيفة أبو هدله، علي العبدالله.