صدقت التوقعات في حي المنزلق المنكوب في بلدة البيسارية (قضاء الزهراني). فعشية رأس السنة، انهار مبنى قيد الإنشاء، عاش فيه الأهالي هناك حتى آخر رمق. لم يكن سقوطه مفاجئاً بالنسبة إليهم، ولكنه كان مؤلماً لهؤلاء الفقراء، وخصوصاً بعدما فقدوا الأمل بترميم ما تصدّع فيه.
العام الماضي، وفي غمرة العواصف التي فلقت الأرض تحت هذا المبنى، كما أربعة مبانٍ أخرى، رفض الأهالي الخروج منه، برغم إشارة النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب، وإيعاز محافظ الجنوب منصور ضو أيضاً، والتي قضت «بوجوب الإخلاء الفوري». بقوا معظمهم هناك لأنه لا بديل يؤويهم، منتظرين التعويضات التي وعدوا بها من الهيئة العليا للإغاثة.
انقضت عواصف الموسم الماضي، من دون تطورات ظاهرة في تلك المباني، إلى أن كانت الشتوة الأولى هذا العام التي زادت التشققات إلى درجة أن السكان بدأوا يسمعون أصوات تكسّر داخل الجدران. عندها قرروا الإخلاء فوراً، منصرفين إلى مصيرهم المجهول.

التربة تتحول
إلى خنادق عميقة بعد حدوث مطر غزير


أما التعويضات التي كرر مسؤولون محليون وحزبيون على مسامعهم مراراً بأن الهيئة العليا ستدفعها لهم، فلا تزال معلّقة. وفي هذا الإطار، نقلت بلدية البيسارية عن الهيئة ووزارتَي الأشغال العامة والنقل والمال بأن «ملف الحي المنكوب والكشف الفني الذي أجري على المباني، يقبع في أدراج مجلس الوزراء منذ أشهر بانتظار الموافقة على بتّ تعويضات المنكوبين».
وكان رئيس الهيئة العليا للإغاثة، اللواء محمد خير، قد أشار في وقتٍ سابق إلى أن «الكشف الأولي على المباني أظهر أن عوامل من صنع الإنسان أدت إلى الزحل وليس كارثة طبيعية»، إلا أن اللجنة الفنية الرسمية التي كشفت بعد أيام من الكشف الأولي على الحي، اتخذت منحى آخر، حين لفتت في خلاصة تقريرها إلى أن «أسباب حدوث الانزلاق حركة ما في الأرض الطبيعية أو ناتجة من مجارٍ مائية جوفية وتتطلب خرائط جيولوجية وهيدرولوجية غير متوافرة لدى وزارة الطاقة». ولما تبين لتلك اللجنة، المؤلفة من المدير الإقليمي لوزارة الأشغال والنقل في الجنوب ورئيسة دائرة التنظيم المدني في صيدا ومهندسين اثنين من الدائرة ورئيس دائرة تنفيذ مياه الجنوب، وجود مجار مائية جوفية تحت المباني، سألت «كيف أعطيت تراخيص البناء من التنظيم المدني لأصحاب المباني؟».
وبالدخول في تفاصيل التراخيص العائدة للمبنى المنهار، فقد أعطت البلدية مالكه في عام 2012 رخصة للبناء مع تصوينة. وقد أتبعت هذه الموافقة بموافقة أخرى صادرة عن رئيس دائرة التنظيم المدني في الجنوب في عام 2013 «مرفق بها كشف فنيّ بالمساحات المرخص بها والرسوم المتوجبة والخرائط»، كما يرد في نص الرخصة. بعد هذا الكشف، الذي من المفترض أن يكون قد أجراه مهندسون على موقع البناء وفحص التربة، منح الترخيص لبناء مجمع سكني من مبنيين بنيت طبقاته على المنحدر تحت مستوى الطريق.
يروي شهود عيان، يقيمون على مقربة من الحي، أن الموقع قبل سنوات كان منحدراً يقصدونه للتنزه، «ويتنوع ما بين الصخور والتربة الكلسية وتجري المياه بين الصخور لأن تحتها يقع نبع ماء يتفجر خلال فصل الشتاء ويجري نزولاً نحو الوادي». ويكمل هؤلاء بالقول إن «التربة تتحول إلى خنادق عميقة بعد حدوث مطر غزير»، لافتين إلى أنه خلال ورشة بناء المبنيين، تصدعت الأساسات وانهارت الجدران مرات عدة، فيما البلدية والقوى الأمنية لم تتدخلا لمنع الأسوأ، كما أن المالك باع ست شقق سكنية فور وضع الأساسات، وقبض ثمنها»... فيما ينتظر اليوم قبض التعويضات من الدولة ليعوض عليهم!
حصل كل ذلك على عين الدولة والقانون، واستمرت الحكاية عاماً كاملاً. ويقول السكان هناك إن التصدعات في الجدران ظهرت بعيد إنشائه، وانهار حائط الدعم المرخص خلال العواصف التي حدثت قبل شتاءين، وكان حينها المبنى مأهولاً بالسكان. حينذاك، قام أصحاب المبنى بإعادة تشييد الحائط برخصة جديدة قبل أن ينهار مجدداً وتزحل الأرض تحت المبنى بعد أقل من عام.
غير أن قصة المبنيين ليست الأخيرة، فهي حكاية المباني الثلاثة المتبقية، فثمة مبنى ثالث أيضاً نال هو الآخر رخصة بلدية، بموافقة التنظيم المدني، في عام 2010 «لتشييد طابق أرضي وأول مع شرفات (فوق المنحدر تحت مستوى الطريق) حسب خرائط الترخيص المقدمة وبناء تصوينة على ألا تعلو مترين عن حدود الأرض الطبيعية». أما المبنى الرابع، وهو الأقدم ويقع قسمه الأكبر فوق مستوى الطريق، فقد نال الترخيص في عام 1995 من التنظيم المدني... إذ لم يكن هناك بلدية في ذلك الوقت. وقد استندت الرخص عند تقديمها للتنظيم المدني إلى دراسة هندسية موقعة من المهندس المختص. وتشترط القوانين أن يشرف على ورشة البناء من الحفر إلى التشطيب النهائي وأن يتحمل مسؤوليته لمدة عشر سنوات بدءاً من تاريخ تشييده. والسؤال هنا: هل أشرف المهندسون المعنيون على الورش؟ وهنا، تتساءل المصادر عن سبب إلقاء المسؤولية على «حركة ما في الأرض الطبيعية وتحييد مسؤولية التنظيم المدني والمهندسين الموقعين على الترخيص الذي يشمل فحص التربة في حال كانت صالحة أو لا». خلال جولته الميدانية بعد زحل الحي قبل عام، رجح نقيب المهندسين خالد شهاب «وجود مشكلة في التربة كسبب لما حصل». وعن دور المهندس الذي وقّع على رخصة البناء، ما دامت التربة لزجة، نزع شهاب المسؤولية عنه، مؤكداً أن «تراخيص التنظيم المدني كلها صحيحة، لكن المشكلة بالتنفيذ، فحيطان الدعم التي انهارت لم تشيد فوق أساسات متينة»! هكذا، ضاعت المسؤوليات، في الوقت الذي دفع فيه الفقراء ثمن الفساد الضارب في «بورصة» تراخيص البناء.