«لا تشغل البال بماضي الزمان... ولا بآتي العيش قبل الأوان ...»عمر الخيام

في نهاية القرن السابع عشر، بنى شخص، لنسمّه روبنسون كروزو، حظيرة كبيرة في إحدى زوايا أراضيه الشاسعة في سهوب جنوب لندن، وكان يختفي في أرجائها لأيام عدّة لا يعلم أحد لماذا.

كان كروزو إقطاعياً بالقانون، ولكن هواه لم يكن إقطاعياً؛ فهو ورث كل الاراضي والأقنان من أبيه لأنه الولد البكر، فيما عُرف آنذاك بنظام توريث البكر أو الـPrimogeniture الذي حافظ على الملكية من دون تبديدها عبر الاجيال. كيف حصل ذلك؟ فهي رواية خيالية تستحق السرد في يومنا هذا، بعد كل الحديث عن اكتشاف النفط والغاز في لبنان. فلنرَ لماذا؟
لم يكن قلب كروزو يوماً مرتاحاً لاحتمال وراثته لأبيه، لأنه عندما أخذه أبوه الى فلورنسا لتمضية الصيف، قضى معظم وقته، إضافة الى الجلوس في المقاهي، في مكتباتها يقرأ الرياضيات والفلك. أعجب كروزو كثيراً بـفيبوناكي (Fibonacci) وسلسلته الرياضية الجميلة (0، 1، 1، 2، 3، 5، 8، 13، 21، 34،...) فرأى فيها بناءً منظّماً (Ordered) وأعجبه نظامها، إضافة الى إمكان التحول الى أرقام عالية بعد خطوات قليلة. كان كروزو يلعب بالارقام، وكان يقارنها بأرقام الحصاد في أراضي أبيه عبر السنين، وكان قد عرف بتلك الارقام بعد أن أطلعه جابي الاتاوات عليها بعد مرض أبيه في شتاء 1691. في دراسته للسلسلة، لامس عندئذ اكتشاف قانون مالتوس، ولكن ذلك لم يكن يهمه كثيراً. فعلى الرغم من إعجابه بفيبوناكي وعمر الخيام ومعادلاته، الا أنه كان ميالاً أكثر الى قوانين الطبيعة.
زار في الطريق برج بيزا المائل (Pisa) وسمع قصص غاليليو ورميه للأجسام عن سطحه. تساءل لماذا يفعل رجل راشد ذلك من دون أي هدف؟ فهو تعوّد أن كل نشاط جسدي لديه هدف في نظام القنانة، وبالطبع رمي الاحجار من أسطح الابنية لم يكن منها، إضافة الى أنه قد يعرضك للملاحقة القانونية تحت قوانين التسكع المستشرية في تلك الفترة (vagabond laws). في الصيف التالي ذهب الى كامبريدج ودرس لبعض الوقت مع إسحق نيوتن، وأراد أن يكون عالماً طبيعياً وهو يفكر أنه دائماً يستطيع أن يعطي الاراضي الى أخيه الذي يليه.

الرأسمالية اللبنانية توهمنا بالتخلص من أزمتها المزمنة باختراع وعود بتدفقات مالية

عندما ذهب نيوتن للعمل في نظام صك النقد الملكي، ليصبح جلاد البلاط ضد المزورين والمتلاعبين بأوزان العملة المعدنية، قرر روبنسون العودة الى جنوب لندن ليُعدّ نفسه للورثة الكبيرة. وعندما عاد، أثار فضوله شيء لم يكن قد أعاره اهتماماً من قبل، وهي طاحونة المياه التي تستعمل لطحن محاصيل القمح. بدأ يمضي الوقت في مراقبتها عن تلة قريبة. فها هي المياه تحرك الطاحونة، وهو الآن يعرف سرّها، وهو أمر لم يعلمه أحد من عائلة كروزو لعشرات السنين. الكل كان يعلم أنها تعمل، أما السبب فلم يكن أحد مهتماً بمعرفته، لا سيد الارض ولا الأقنان، فهم يريدون جرش القمح لا أكثر ولا أقل.
"إنها الجاذبية"، قال كروزو لأقرب المقرّبين اليه، من دون أن يجذبهم الى الحديث أكثر من ذلك. فقرر بناء الحظيرة قرب الطاحونة، وبدأ بالتفكير كيف يغيّر عمل الطاحونة بحيث لا تعتمد على تدفق المياه، فهي إن توقفت توقف العمل، وبالتالي فإن أيام الشح قد تتوافق مع أيام المحاصيل، فيهدر القمح في انتظار المياه. بالنسبة إلى الكل كان هذا أمراً طبيعياً؛ فقوانين الانتاج هي قوانين طبيعية وليست إنسانية، وعلى الانسان أن يخضع لها. في وسط كل هذا، وكما عند خضوع الانسان لقوى الطبيعة والقدر، فإنه يذهب الى اختراع الاساطير أو قوى خارقة، بدا أن كروزو في تفتيشه عن الآلة المتحركة الأزلية (perpetual motion machine) لا يتبع تلك النزعة الى الاساطير، لكن يضفي على العلم شيئاً منها.
عمل عشر سنوات على ذلك، ولم يفلح لأنه ليس هناك آلة كهذه، وهي تخالف قوانين الديناميكيا الحرارية (thermodynamics). لكن كروزو لم يعلم ذلك، لأن العالم لم يكن قد اكتشف تلك القوانين، فكان على العالم انتظار مجيء لودفيغ بولتزمان بعد حوالى مئتي عام ليشرح لنا لماذا لا نستطيع أن نخترع تلك الآلات؛ ومن ثم ينتحر.
بعد ذلك عمل كروزو على استعمال الحرارة لدفع نماذج صغيرة للطواحين عبر البخار، وكان في طور اكتشاف المحرك البخاري. لكن قتله الطاعون قبل ذلك. أما إخوته فقد وجدوا بئراً ذات سائل أسود تفوح منه روائح كان يبدو أن كروزو اكتشفه وأخفاه؛ فبحسّه العلمي عرف أن ذلك السائل قد يبيعه إخوته ويتقاتلون عليه حتى قبل أن يعوا إذا ما كان ذا قيمة أو لا، وقد يحملونه الى أميركا أو الهند أو الصين ليبيعوه ويستبدلوه بالذهب، وبالتالي يغرقون في الأشياء وينسون الزراعة؛ فكان أن أغلقها وتابع عمله.
بعد موته بعدة أسابيع، أتى إخوته وفكّكوا الحظيرة ورموا آلات كروزو وأوراقه، وحوّلوا الأقنان الى الحفر والتجميع والتخزين والنقل، الى أن أتى يوم تبين أن لا حاجة للعالم بعد بهذا السائل الاسود، فماتت الاراضي وتبعثر الأقنان؛ وكأن كروزو علم بما سيحصل، فبحدسه العلمي استشرف هذه اللعنة.
لحسن الحظ سار التاريخ بمسار حديدي، فاخترع واتسون الآلة البخارية، وأتى كارل ماركس ليقول أجمل ما عنده "آلة الطحن اليدوية تعطيك الإقطاعي، وآلة الطحن البخارية تعطيك الرأسمالي". وكان بعد ذلك كل شيء.
اليوم في لبنان بدأنا نُعدّ أنفسنا لنرث وننفق ثروة طبيعية، لم تتأكد بعد، لأن كل ما جرى حتى الآن هو الاستكشاف عن بعد، وما زلنا في طور الاحتمالات: احتمال أن نجد النفط والغاز، واحتمال أن تكون هذه "الثروة" بكميات وأعماق اقتصادية، واحتمال أن يهتم الرأسمال العالمي بربحيتها، واحتمال أن نصل الى كل ذلك قبل أن تنهي إسرائيل وقبرص واليونان أحلام اليقظة هذه، واحتمال ألا يتقاتل الإخوة اللبنانيون عليها، واحتمال أن لا تطل "لعنة الموارد" برأسها فلا نبدّدها وندمر ما تبقى من قاعدة علمية وإنتاجية في البلاد. في علم الاحتمالات، يؤدي كل هذا الى سلسلة مضاعفة "قبيحة"، لأنها لا تبقي في النهاية شيئاً من أوهام تريد الرأسمالية اللبنانية أن توهمنا وتوهم نفسها بها لعلها تتخلص من أزمتها المزمنة باختراع وعود بتدفقات مالية لن تأتي أبداً.