أكثر من تريليون دولار سنوياً هي التكلفة التي تتكبدها اقتصادات العالم بسبب فقدان الإنتاجية والنفقات الصحية جراء صناعة التبغ. بالمقابل، جنت الحكومات 269 مليار دولار من الضرائب غير المباشرة على التبغ، ولم تستثمر سوى أقل من مليار دولار لمكافحة التبغ. فالفقراء يزرعون التبغ ويستهلكونه ويموتون من جرائه، أما الدول الغنية فهي التي تصنّع منتجات التبغ وتأخذ أرباحه وتفرض قوانين وضرائب مرتفعة على استهلاكه داخل حدودها.
خمس شركات كبرى تسيطر على 85% من سوق التبغ العالمي وتتورط بعمليات تهريبه كجزء من استراتيجيتها التسويقية. هذه الشركات نفسها تشكل عائقاً أساسياً أمام مكافحة التبغ، إذ بحلول عام 2030 سترتفع أعداد الوفيات المرتبطة بالتبغ إلى نحو 8 ملايين سنوياً. هذه باختصار اقتصادات التبغ التي تتحدث عنها دراسة جديدة للمعهد الوطني للسرطان ومنظمة الصحة العالمية تحت عنوان «اقتصادات التبغ ومكافحة انتشاره».

كيف تعمل اقتصادات التبغ؟

شهدت نهاية القرن 20 إتمام عملية انتقال ملكية مؤسسات وشركات التبغ من الدولة إلى الشركات الخاصة، وتحديداً الشركات المتعددة الجنسيات، في معظم أنحاء العالم، مع وجود استثناءات قليلة مثل مؤسسة التبغ الوطنية الصينية التي تملك 40% من حصة إنتاج السجائر في العالم. في عام 2013، سيطرت عشر دول على 80% من إنتاج ورق التبغ في العالم، واعتباراً من عام 2014 ازدادت القوة السوقية لشركات التبغ، إذ تركزت صناعة التبغ بيد 5 شركات تسيطر على 85% من سوق التبغ العالمية، 4 شركات متعددة الجنسيات، إضافة إلى مؤسسة التبغ الوطنية الصينية. يهيمن على استيراد أوراق التبغ أيضاً عدد قليل من الدول بحيث تستورد 5 دول ما يقارب 40% من واردات أوراق التبغ عالمياً. جراء عولمة صناعة التبغ، باتت الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر حتى على سوق أوراق التبغ، «فالاتجاهات الحديثة في تنظيم إنتاج أوراق التبغ وسلسلة التسويق، بما في ذلك استخدام نظم الإنتاج المتكاملة، وسّعت من سيطرة هذه الشركات على السعر وعوامل أخرى، ما جعل المزارعين يتبعون لها بشكل متزايد».

="" title="" class="imagecache-2img" />
تصميم رامي عليّان | للطلاع على الصورة المكبرة انقر هنا


تقوم اقتصادات التبغ على نموذج واضح، إذ تنتشر زراعة التبغ والصناعات التحويلية في 124 دولة، غالبيتها دول فقيرة، في حين أن المراحل الأعلى قيمة في سلسلة صناعة التبغ تتم في عدد قليل من شركات التبغ المتعددة الجنسيات الموجودة في الدول الغنية. تبيع هذه الشركات النسبة الأكبر منه للدول الفقيرة، ما يرتب أعباء ضخمة على الفاتورة الصحية ويرفع نسب الوفيات. فالدول الغنية، التي تتم فيها عملية تصنيع التبغ، تفرض ضرائب مرتفعة على السجائر ومنتجات التبغ، ولديها قوانين صارمة بشأن تسويق التبغ للحدّ من استهلاكه، في حين أن الضرائب على منتجات التبغ في الدول الفقيرة أقل بكثير.

استهلاك التبغ
يتركّز بين الفقراء والجماعات المهمّشة


269 مليار دولار هو حجم الضرائب غير المباشرة على التبغ عالمياً عامَي 2013 و2014، إلا أن الحكومات استثمرت أقل من مليار دولار منها من أجل مكافحة التبغ. في الواقع، تشير الدراسة إلى أن زيادة ضريبية طفيفة على أسعار السجائر بمعدل 80 سنتاً في جميع الدول، من شأنها أن ترفع أسعار السجائر بنسبة 42%، ما يؤدي إلى انخفاض بنسبة 9% بمعدلات التدخين، أي انخفاض عدد المدخنين بمعدل 66 مليون شخص.

من يستهلك التبغ؟

تقول الدراسة إنه منذ عام 1990 لم تعد أسعار السجائر في الدول ذات الدخل المرتفع محمولة نسبياً، عكس الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط التي باتت أسعار السجائر فيها محمولة للناس. أدى هذا الأمر إلى انخفاض الاستهلاك في الدول الغنية وزيادة الاستهلاك في الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل.
80% من إجمالي عدد المدخنين في العالم، البالغ 1.1 مليار مدخن، يعيشون في دول متوسطة ومنخفضة الدخل. فاستهلاك التبغ يتركز بين الفقراء والجماعات المهمشة، ما يعزز الفقر، إذ يزيد الإنفاق على الفاتورة الصحية. تتوقع الدراسة أن لا يتحقق الهدف العالمي المتمثل في تخفيض 30% من استهلاك التبغ بحلول عام 2025، وعليه ستزداد أعداد الوفيات المرتبطة بالتبغ من نحو 6 ملايين حالة وفاة سنوياً إلى نحو 8 ملايين سنوياً بحلول عام 2030، مع أكثر من 80% من هذه الوفيات في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
يؤثر سعر السجائر على الاستهلاك، وبالتالي أي تغيير بالسعر يؤدي إلى تغييرات في كميات الاستهلاك، إلا أن استجابة الاستهلاك مقارنة بزيادة الأسعار أعلى في الدول الفقيرة منها في الدول الغنية. فقد لاحظت الدراسة أن «الطلب على منتجات التبغ في الدول الفقيرة والمتوسطة هو على الأقل مشابه لاستجابة السعر حسب الطلب في الدول الغنية وفي الغالب أكثر استجابة». فزيادة سعر التبغ بنسبة 10% في الدول الغنية يؤدي الى انخفاض الاستهلاك بنسبة 4%، في حين أن زيادة سعر التبغ بنسبة 10% في الدول الفقيرة والمتوسطة يؤدي الى انخفاض الاستهلاك بنسبة 5%!




لبنان: نقطة تهريب السجائر في الشرق الأوسط

يقوم اقتصاد التبغ، كما يرد في الدراسة، على تعزيز عمليات التهريب الذي تشرف عليه مباشرة شركات التبغ عالمياً. فقد كشف العديد من الدراسات عن وثائق تؤكد هذا الأمر، حيث تبين على سبيل المثال أن المصدر الرئيسي للسجائر المهربة في البرازيل يأتي من الباراغواي، أما بلدان السوق الجنوبية المشتركة، وهي: الأرجنتين، البرازيل، الباراغواي والأوروغواي، فقد رسم أحد الأبحاث طريق التجارة غير الشرعية للتبغ الذي يدخل إليها ليظهر أن بنما هي أكبر مورد للسجائر المهربة في المنطقة.
عام 2008 نشرت الجامعة الأميركية في بيروت بحثاً للدكتورة ريما نقاش وكايلي لي بعنوان «التهريب كـ»مفتاح للسوق المشتركة»: شركة التبغ البريطانية الأميركية في لبنان»، استخلصت فيه الباحثتان تورط شركة التبغ البريطانية ــ الأميركية في تهريب سجائر إلى لبنان. وجد البحث أدلة في الوثائق الداخلية للشركة تؤكد أن التهريب كان عنصراً مهماً للشركة ضمن استراتيجيتها لدخول سوق لبنان والدول المجاورة، ليتبين أن لبنان ليس فقط سوقاً مستهدفة للشركات إنما هو أيضاً النقطة الرئيسية لتهريب السجائر في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. وصفت الوثيقة «لبنان، قبرص، سوريا والأردن بأنها مجموعة متشابكة من الأسواق بقنوات توزيع سريعة التغير». في الواقع، تقول الدراسة إن منطقة الشرق الأوسط تعتبر الثالثة من حيث استيراد السجائر بنسبة 19.9% من الاستيراد العالمي، أما الإمارات والسعودية والعراق وإيران ولبنان فهي أكبر المستوردين في المنطقة.