في افتتاح ندوة "الموازنة اللبنانية بين التطبيق والتقنية"، التي نظّمها حزب الكتائب، أمس، جلس الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد الحايك، على يمين رئيس الحزب سامي الجميّل، وعلى يمين الحايك كانت هناك مجموعة من رجال الأعمال، على رأسهم شارل عربيد ونقولا الشماس ومارون شمّاس.
مشهد يختصر كل المواقف والنقاشات التي أطلقت من منبر حزب الكتائب. ولولا وجود أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية جاد شعبان في هذه الجلسة، لكان النقاش كلّه عبارة عن صدى لجملة واحدة ترددت مراراً وتكراراً خلال السنوات الماضية: لا للضرائب، لا لسلسلة الرتب والرواتب، لا للدولة... نعم للخصخصة، ولا سيما آخر أشكالها "الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص".
كان يفترض أن تكون الندوة مخصّصة للنقاش في الموازنة المغيبة منذ 11 سنة عن لبنان، إلا أنها استعملت كأداة لتسويق مجموعة واسعة من الأفكار المعلّبة عن "الدولة الفاشلة" وضرورة إحلال "القطاع الخاص الناجح" محلّها. النقاش تجاوز أصلاً هذه الفكرة إلى درجة أنه عندما "أخطأ" الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد الحايك، بالحديث عن نوعية الوظائف الحالية في القطاع الخاص المتدنية القيمة، ولا سيما في قطاعي التجارة والمبيعات الاستهلاكية، انقضّ عليه رئيس جمعية تجار بيروت نقولا الشماس، موضحاً أن هذه الأعمال تشكّل 27% من مجموع العمالة في لبنان، وأنه لا يجوز انتقادها!

شارل عربيد
ونقولا الشماس يرفضان تمويل السلسلة من الضرائب

الندوة عرضت بعض الأرقام عن الموازنة من دون أن تقدّم اقتراحاً واحداً في كيفية معالجة مشكلة عدم وجود موازنة منذ 11 سنة. رئيس الحزب سامي الجميّل وقع في هذا الخطأ. خطأ النقد لغاية النقد والاعتراض فقط على من هم داخل السلطة. كرّر الجميل أكثر من مرّة أن لبنان ليس لديه موازنة، لكنه لم يشر إلى حجم المخالفات الذي يعتري هذا الإنفاق كلّه ولا الإنفاق المهدور فيه ولا الآليات القانونية التي يجب التمسّك بها للخروج من هذه المعضلة. لا بل أعلن الجميّل موقفاً واضحاً يقضي بضرورة "إعلان حالة طوارئ اقتصادية، لأن المؤشرات خطيرة جداً"، محذراً من الزيادة على الضرائب التي "ستشكّل كارثة على الاقتصاد اللبناني".
واللافت أن تركيز الجميّل انصبّ على موضوع الكهرباء، إذ أنفقت الدولة اللبنانية في السنوات العشر الأخيرة ما يقارب 11 مليار دولار لدعم مؤسسة كهرباء لبنان. تساءل الجميّل عن البنية التحتية التي يمكن تنفيذها بمبلغ كهذا، إلا أنه سقط بالخطأ "المقصود"، إذ رأى أن الدولة تغطي "عجز" مؤسسة الكهرباء، متغاضياً عن أن المبالغ التي ذكرها هي "دعم" قررته الدولة عندما ثبتت سعر الكهرباء للمستهلكين، فالتعرفات ثابتة منذ عام 1993.
هذا لا يعني أنه ليس لدى الجميل رؤية واضحة عمّا يريده والأهداف منها. فهو على اطلاع بأساسيات الموازنة المتعلقة بضرورة كونها أداة تنموية لتشجيع الإنفاق الاستثماري على حساب أبواب الإنفاق الأخرى، إلا أن رؤيته لا تشير إلى أن الضرائب هي أداة لإعادة توزيع الثروة، بل هي أداة للإيرادات، ويعتقد أن للموازنة هدفين: محاربة البطالة، وهذا هو أهم مؤشر في الدول الحضارية، إذ إنه يُسقط حكومات، وبالتالي هدف الموازنة هو "خلق فرص عمل لأنها توصلنا إلى الهدف الثاني، وهو محاربة الفقر، عندها يتمكّن المواطن من العيش بكرامته من إيجاد فرص عمل وعيش حياة لائقة مع عائلته".
وفي هذا السياق يعيد الجميّل طرح معالجة من نوع آخر عن تكبير حجم الاقتصاد في مواجهة العجز ونموّ الدين العام، وهذا التكبير لا يأتي إلا من طريق الشراكة مع القطاع الخاص، فالكهرباء على سبيل المثال "لا يمكن أن تُحل إلا بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، فنحن دولة مفلسة ولا يمكن أن ندفع من خزينتنا مشاريع بهذا الحجم".
وبعد الجميّل قدّم الخبير الاقتصادي جاد شعبان مداخلة عن سلسلة الرتب والرواتب. بدأ شعبان كلامه بالقول إن "سلسلة الرتب والرواتب مطلب محق وزيادة الرواتب والأجور ضرورية للتعويض عن الخسارة في القدرة الشرائية"، مطالباً "بضرورة فصل سياسة إنصاف الموظفين وتعزيز رواتبهم عن إصلاح الإدارة العامة وتفعيلها".
سريعاً ردّ عربيد ونقولا الشماس على كلام شعبان. في البداية قال عربيد إن الهيئات الاقتصادية لا ترفض السلسلة، بل تربطها بمجموعة من المؤشرات المتعلقة أولاً بكون هيكلية الدولة قديمة، وقد يتطلب تحديثها الاستغناء عن كثير من الوظائف، وربط تمويلها بوجود تحويلات كبيرة للكهرباء، ورفض تمويلها من القطاع الخاص، أي بواسطة الضريبة.
أما الشماس، فقد اختار لا موازنة "بين موازنة سيئة ولا موازنة" وصبّ غضبه على المستأجرين القدامى، مشيراً إلى وجود "فلتان في موضوع النفقات، وعلى سبيل المثال إنشاء صندوق لدعم المستأجرين في بلد منكوب مثل لبنان"، لافتاً إلى أن الموازنة "تتحدّث عن أكثر من 20 ضريبة كلها تضرب الاستهلاك".
لم يردّ أحد على عربيد والشمّاس، فالكلام مباح تحت أرزة الكتائب. مجرّد وجود صندوق لتمويل تحرير الإيجارات، عدّه الشمّاس فلتاناً إنفاقياً، أما الضرائب على الفوائد وعلى العقارات فهي أمر مرفوض!
وعلى يمين الشمّاس، كان مدير الدراسات في بنك بيبلوس نسيب غبريل، يصبّ غضبه على المتقاعدين الذين يستحوذون على حصّة كبيرة من الإنفاق التشغيلي في الموازنة، مشيراً إلى أن تمويلهم في السنوات الأخيرة بات موازياً لتمويل الدين العام، وأنه يجب إعادة النظر بهذا الأمر وتحويل هذا التمويل إلى الإنفاق الاستثماري. غبريل لا يشبه الشمّاس، فالأول من كبار موظفي بنك بيبلوس، والثاني من كبار ورثة الوكالات الحصرية في لبنان، ولذلك فإن غبريل لا يملك جرأة الشمّاس، فاستعان بالأرقام للهجوم على معاشات التقاعد بدلاً من أن يطالب أصحاب المصارف بإقرار نظام يمنحه معاشاً تقاعدياً كالذي يحصل عليه الفقراء ومتوسطو الدخل العاملون في القطاع العام.