من الطبيعي أن الحشر في الزوايا يخرج المخالب ويضرب سيوفاً، لكن في ماء. فما سمعنا وقرأنا أخيراً من ردود على مواقفنا الدائمة من نهج البنك المركزي وتحمله الجزء الأكبر من مسؤولية تدهور الاقتصاد وتراجع النمو وضعف فرص العمل، كأننا نغامر بلقمة العيش ونضرب الليرة والإنتاج ومداخيل الأسر بما نقول ونقترح، ليست إلا ادّعاءات وأعذاراً اقبح من أشدّ الذنوب...
لا يُسمح لمصرف مركزي بألا يحمل همّ النمو الحقيقي للاقتصاد أو أن يحصر عمله بالنقد فحسب، لأن فصل النقد عن النمو كمن يفصل الروح عن الجسد، فيموت الجسد ومعه النمو. النقد والاقتصاد لا ينفصلان، وإذا وُجد النقد فلكي يخدم الاقتصاد. إذاً، من يضع الاقتصاد في خدمة النقد يضحّي به من أجل سراب. حتى عندما ينص قانون النقد والتسليف على حماية القيمتين الداخلية والخارجية للنقد، فمن وضع القانون يدرك تماماً أن الضامن الرئيسي لتلك القيمتين هو متانة الاقتصاد وتنوعه وإنتاجيته وتنافسيته ونموه، وهكذا يضحى النقد مرآة تعكس حال الاقتصاد، فإذا تقدّم الأخير، تحسّنت قيمة النقد ومعها الثقة به والطلب عليه. وإذا تراجع، ضعفت قيمة النقد ومعها الثقة به والطلب عليه. وتصبح المطالبة ببناء اقتصاد بواسطة النقد أو السياسة النقدية في غاية الموضوعية وفي محلّها، لأن الاقتصاد القوي يولّد نقداً مستقراً متيناً وثقة كبيرة في النفوس.

سياسات البنك المركزي تغذّي الاستهلاك والريع على حساب الإنتاج ومحاربة البطالة


يساهم البنك المركزي في تحقيق مزيد من النمو الاقتصادي، الضامن الوحيد لاستقرار النقد، بواسطة عرض النقد أي توفير السيولة اللازمة والمناسبة للاقتصاد وحاجاته التمويلية. ولا يمكن لأي واقع أن يفرض انكماشاً في عرض النقد أو توسعاً له بشكل مستمر على مدى ربع قرن، كالسياسة النقدية الانكماشية في لبنان المستمرة منذ 1993 حتى اليوم. ويفترض النمو الحقيقي زيادة حجم الاستثمار الداخلي والاستهلاك الفردي والصادرات وفرص العمل المتوافرة والقوة العاملة ودرجة إنتاجيتها، والتي تتطلب تمويلاً كافياً ومناسباً، أي عرضاً مدروساً للنقد. وإذا اقترن النمو بنظام ضريبي عادل مبني أساساً على الضرائب الشخصية ومكافحة التهرب الضريبي، يرفع مستوى المعيشة ويطوّر نوعية الحياة في المجتمع.
إن حفز الاستثمار في العصرنة والمعلوماتية والاتصالات، وكفاية الإداريين في المؤسسات العامة والخاصة، كما الموظفين والعمال وقدرتهم على تطبيق التكنولوجيات الحديثة... يساعد على ازدياد إنتاجية العمل وأيضاً حجم استهلاك الفرد وادخاره .إذاً، يجب أن تساعد السياسة النقدية في تحقيق ناتج جيد وتحارب البطالة، ومن أهدافها أيضاً السيطرة على التضخم من أجل المحافظة على سعر صرف العملة المحلية ضمن هوامش معقولة تضمن عملاً منتظماً لسوق القطع، أي حركة عرض وطلب للعملة المحلية والعملات الأجنبية تُبقي سعر الصرف ضمن هوامش تقلب تضمن انتظام عمل سوق حقيقية للقطع في نظام اقتصادي حر أي اقتصاد السوق، وهو النظام الاقتصادي الدستوري للبنان.
سوق النقد سوق أخرى يديرها البنك المركزي، تفترض عرضاً للنقد وطلباً عليه يتولد منهما ثمن للنقد، أي سعر الفائدة. النظام المصرفي يعرض النقد في الاقتصاد، نقداً ورقياً مطبوعاً من البنك المركزي يشكل القاعدة النقدية الضرورية للعمل المصرفي، ونقداً دفترياً يتولد من القروض المصرفية. إن كمية عرض النقد اللازم تؤثر على الفائدة الحقيقية المناسبة وتخفض البطالة وتحافظ على نسبة تضخم معتدلة، لأنه لا نموّ من دون حدّ أدنى لنسبة التضخم، وتحافظ أيضاً على استقرار سعر الصرف وتزيد حجم الناتج، أي حجم الاقتصاد. إذاً، عرض النقد مسألة في غاية الأهمية والتأثير، وخصوصاً على سعر الفائدة. وبما أن الفوائد أصبحت من الأهداف الرئيسية للمصارف المركزية في العالم، زادت أهمية عرض النقد بناءً على القواعد العلمية والعالمية للسياسة النقدية.
إن أي زيادة في عرض النقد يجب أن توازن بين الاستثمار المنتج وفرص العمل والاستهلاك، وألا تغذّي أساساً الاستهلاك والريع على حساب الإنتاج ومحاربة البطالة، كما هي حال سياسة المركزي في لبنان. إن زيادة عرض النقد في اقتصادنا money multiplier محدودة جداً، نظراً إلى النسبة العالية (50%) من ودائع المصارف مودعة لدى البنك المركزي. فمن أصل 160 مليار دولار تمثل مجموع الودائع المصرفية، يوجد ما يوازي 80 مليار دولار (75% منها بالعملة الأجنبية) مودعة في البنك المركزي. هذا يحدّ بشكل دائم ومستمر من زيادة عرض النقد في الاقتصاد، جاعلاً من سياسة البنك المركزي سياسة نقدية انكماشية على مدى ربع قرن، اعتمدت الفوائد العالية، فراكمت الديون على الخزينة، وقلصت حجم الاقتصاد وفرص العمل، وهجرت قسراً شباب لبنان. إن نسب الاحتياط الإلزامي من أعلى النسب في العالم، 15% على الودائع بالدولار و25% على الودائع بالليرة، ما يساوي نحو 30 مليار دولار، تضاف إليها احتياطات إضافية بشكل ودائع مصرفية لدى البنك المركزي بنحو 50 ملياراً، يدفع البنك المركزي فوائد مدينة عليها تضاف إلى الدين العام القائم البالغ 75 مليار دولار، فيصبح مجموع الدين العام 125 مليار دولار، في مقابل ناتج محلي لا يتعدى الـ 53 مليار دولار. هذا يدل بوضوح على عدم قدرة الاقتصاد على توليد الواردات الضرورية للخزينة من أجل خدمة دَينها وخفضه التدريجي في ضوء احتساب نسبة الدين إلى الناتج توازي 235%، بينما المعيار الدولي يفرض أن لا تتجاوز 60%. إن المصارف المركزية تعتمد عموماً نسباً عدة معتدلة للاحتياطات الإلزامية حسب طبيعة الودائع. وقد تغطى فرق قيمة الذهب في موجودات البنك المركزي بزيادة النقد في التداول وودائع البنوك في مطلوباته دون أن يفيد منه القطاع الخاص كفاية على صعيد تطور القروض الخاصة.
أما الطلب على النقد فيتأثر إيجاباً بتراجع الدخل الحقيقي، واعتدال الفوائد وتوقع نسب عالية للتضخم، فالشركات تطلب النقد من أجل الاستثمار والأفراد من أجل الاستهلاك، أما الاستثمار المنتج فهو دائماً محكوم بالعائد المتوقع عليه، والذي يجب أن تفوق نسبته نسبة الفائدة المدينة لكي يتحقق، وهذا ما لم نشهده كثيراً في لبنان خلال ربع قرن. إن العائد الجيد يفترض خفض الفوائد في زمن الركود ورفع الفوائد في زمن الفورة الاقتصادية، صحيح أن الاحتياطات النقدية للمصارف تطمئن المودعين، لكنها يجب ألا تكون مفرطة فتتسبب باختناق الاقتصاد. كما يستعملها المركزي أيضاً لزيادة محفظته من الأوراق المالية وإقراض الخزينة والتي ارتفعت خلال 2016 بنسبة 45% لكي تصل إلى 32 مليار دولار.
في الولايات المتحدة، يُبنى توقع التضخم على الفرق بين الفائدة الاسمية على السندات الأميركية الرسمية لـ 10 سنوات والفائدة الحقيقية على السندات الأميركية المحمية من التضخم لـ 10 سنوات أيضاً، كما أن الفائدة هناك تتأثر بانحراف النسبة الجارية للتضخم على النسبة المتوقعة له وبانحراف الناتج الجاري من ناتج الاستعمال الأمثل لكل الموارد الطبيعية والمالية والبشرية المتاحة (Taylor rule). والتضخم يتأثر بزيادة عرض النقد وزيادة الطلب عليه. وفي لبنان، الفارق كبير جداً بين الناتج الحالي (53 مليار دولار) والناتج الاحتمالي (يقدّر بضعفه على الأقل لو أفدنا كما يجب من كل مواردنا الوطنية البشرية والمالية والطبيعية). كل الوسائل المتاحة أمام المركزي لعرض النقد من نسبة الاحتياط الإلزامي وإعادة الحسم والفائدة المدينة على احتياطات المصارف وبيع السندات وشرائها في السوق المفتوحة... كلها صبت ولا تزال في تقييد عرض النقد ومنعه عن القطاع الخاص المنتج والتسبب الدائم برفع الفوائد ونسبة البطالة. كما أن كل الفوائد والمكافآت التي دفعت للمستفيدين في إطار ما سمّي خطأ هندسات مالية لزيادة الاحتياطات القائمة لا الصافية للبنك المركزي، أبقت على دولرة جزئية لكن مهمة للنقد، فلبنان يأتي بعد رواندا وزيمبابوي في نسبة الدولرة (64% في لبنان، مقارنة مع 70% هناك). ولكن الدولرة مع التثبيت النقدي لم يحميا القدرة الشرائية للمداخيل الأسرية بسبب التضخم المستورد والمحلي الذي تسببه الحصرية الخارجية والداخلية للتمثيل التجاري في لبنان.
إذاً، سياسة البنك المركزي انكماشية وريعية تخالف نظام اقتصاد السوق بإلغاء سوقي القطع والنقد، كما هي انتقائية تدخلية تفضل قطاعاً على آخر وتدعمه متعدية على صلاحيات السلطة التنفيذية، فدعم القطاعات من صلب عمل الحكومات، أما البنوك المركزية فعليها أن توفر السيولة للجميع وبنفس الشروط، وهي أيضاً تمييزية متساهلة مع القطاع العام، معرضة سلامة الودائع للخطر مع مدين غير مليء، ومتشددة إلى أبعد الحدود مع القطاع الخاص غير المحظي بعطفها، علماً بأن سلامة النقد من سلامة النظام المصرفي وسلامة القروض المصرفية. إضافة إلى ذلك، فإن البنك المركزي لم ينشر منذ عام 2002 حسابات الأرباح والخسائر للمصرف. وسياسته أيضاً انحرافية لأنها زادت انحراف النتائج الاقتصادية، فعجز الميزان التجاري ارتفع خلال عقد من الزمن، منذ 2006، من مليار دولار إلى 17 مليار دولار راهناً بسبب غياب المرونة وانكماشية عرض النقد ومنع الاقتصاد من تصحيح نتائجه بنفسه. ثم إنها لم تساهم في بناء اقتصاد متين، لكنها تصرفت كمن يبني على رمل، فراهنت دائماً على التحويلات والاستثمارات الخارجية والريعية ورفد الاقتصاد بالحد الأدنى من السيولة. وعندما شحّت التحويلات، بدل أن يكون العوض هو الاقتصاد وصادراته، كان العوض هرطقات مالية قامت، كما درج المصرف المركزي، على المكافآت الريعية المكلفة على الخزينة والاقتصاد والناس، وهذا ما دفع الأمين العام لجمعية المصارف إلى القول في افتتاحية العدد 7/2016 من النشرة الشهرية للجمعية، في معرض كلامه على أوروبا واليابان والشراء الكثيف للأوراق الحكومية التي تحملها مصارفهم، إن السياسة النقدية في لبنان لا تستطيع محاكاة مستويات منخفضة لمعدلات الفوائد خوفاً على تثبيت النقد الذي أرسته طوال ربع قرن بكلفة اقتصادية على حساب النمو وبكلفة اجتماعية على حساب العمالة والمداخيل.
إن المتوسط السنوي بين 2010 و2016 لزيادة القروض المصرفية للقطاع الخاص بلغ نحو 3 مليارات دولار، والحاجات الحقيقية بالفوائد المناسبة كانت ولا تزال ضعف هذا المبلغ لكي يمثل الاستثمار الداخلي والسنوي 20% من الناتج الذي هو مقياسه الدولي.
إن فصل النقد عن الاقتصاد، بدل وضع النقد في خدمة الاقتصاد بواسطة عرض مدروس ومناسب له، سخّر الاقتصاد لخدمة النقد، فكانت سياسة انكماشية وريعية باستمرار.
من ساهم في ازدياد الدين العام؟ من ساهم في تكبير حجم خدمة الدين العام في الموازنات العامة السنوية؟
إن الإصلاح المالي الحقيقي يبدأ في المصرف المركزي، والسياسة النقدية التوسعية المدروسة مطلوبة من القطاعات الاقتصادية، ولا تضع النقد على شفير الانهيار وتفلس الدولة كما يدّعي البعض. فهل أصبح مصرف لبنان الضحية ونحن الجلادون؟
بقي لبنان بمنأى عن تداعيات الأزمة المالية العالمية بسبب عزلة بورصة بيروت وضعفها وعدم تداخلها مع البورصات الإقليمية والعالمية. وتحويلات 2009 إلى لبنان كانت ظرفية تحديداً بسبب الخوف الخارجي من نتاتج الأزمة العالمية. ولو فعلياً امتصّت تلك التحويلات عجوزات ميزان المدفوعات بين 2012 و2015، لما أقحم البنك المركزي نفسه أخيراً في هندسة مالية مكلفة جداً لجذب عملات صعبة وصفها بعض الاقتصاديين الموالين بأنها مربكة تحمّلتها ميزانية مصرف لبنان. الحرب في سوريا لا تمنع التصدير في حال توافره، لأن الدولة تستطيع استئجار عبّارات تساعد المصدّرين، ولا يستطيع أحد الحكم على الفوائد وجدواها إلا المعنيّون بها، أي المستثمرون فليُسألوا عنها. ولم يعد لدينا ما نصدّر سوى أولادنا الذين لا يحتاجون إلى خفض سعر عملة أو إلى شهادة منشأ، بفضل نصائح البعض بتحرير التجارة الخارجية قبل أوانها بكثير، والتي أدت إلى خفض الجمارك إلى متوسط 5% دون مبرر في 2000 وأقفلت مصانع كثيرة. طبعاً، لا نطلب توزيع القروض عشوائياً على طريقة الرئيس ج. بوش، وإنما توفيرها بالكلفة الملائمة للذين يستأهلونها. كما نرفض انتقائية سياسة المركزي وعدم توافر السيولة اللازمة للمستثمرين والمستهلكين كافة. والمهم أن يفهم الجميع معنى هذا القول:
Lavaleurd’une monnaie se constate mais ne se décrète pas.
أي أن قيمة النقد نتبيّنها ولا يمكن لأحد أن يحدّدها مركزياً. كما أن مركزية قرار الفوائد وسعر الصرف يخالفان الدستور وقواعد اقتصاد السوق.
كل ذلك يقتضي بوضوح سياسة نقدية تبني اقتصاداً وثقة حقيقية في عملة وطنية مستقرة.
ومن أجل سياسة إصلاحية للمصرف المركزي، يجب على أي حاكم جديد أن يوحي بالثقة وأن يكون مستقلاً وكفيّاً ومتمكناً من القضايا النقدية والمالية والاقتصادية.