عندما يكفهر وجه الوطن وتتلبّد في سمائه الغيوم السود ويعز فيه الرجال الرجال، تصبح العودة إلى معروف سعد حاجة ملحّة كي نتعلم من أمثولات تضحياته معنى الانتماء إلى الوطن والأمة، ونستعيد به ومعه دروس الكرامة والصلابة والإباء.
تعرفت إلى معروف سعد طفلاً، وكبرت على محبته واحترامه ككل أبناء جيلي. كان معروف، بالنسبة إلينا، ذلك المارد العنيد الذي لطالما كانت سيرته الكفاحية مروّيات أهلنا وجيراننا، يحكونها لنا منذ الصغر، وظلت صورته حاضرة ببالي إلى أن دخلت منزله بحشرية الطفل، وبقيت فيه بعد استشهاده وتسلّم ابنه مصطفى الذي رافقت مسيرته الحافلة بالعطاء والشهادة بكل فخر، ولا زلت فيه مع أسامه الذي تسلّم أمانة النضال من الأمين الحبيب مصطفى، رمز المقاومة الوطنية ضد الاحتلال.
معروف سعد ابن ذلك الجيل من المناضلين الذين لم يعرفوا في نضالهم إلا فلسطين، فكانت بوصلتهم الوحيدة ولم يشركوا بها أحداً.
في هبّة عام 1936، يمّم معروف سعد شطر فلسطين إلى جانب كبار من أمتنا، فوزي القاوقجي والحاج أمين الحسيني وآخرين كثيرين. عزّ عليه أن توهب فلسطين لليهود بوعد مشؤوم ذات ليل مدلهم، فامتشق بندقيته ومضى إليها يدافع عنها ضد المستعمر الإنكليزي والمستوطن الصهيوني القادم إليها محتلاً من أقاصي الدنيا. وفي عام 1948، عام النكبة، امتشق معروف سعد البندقية مجدداً منعاً لاغتصابها، فكانت بطولاته في المالكية عنواناً للنضال القومي العربي من أجل فلسطين، وهو النضال ذاته الذي قاده إلى عبد الناصر بعد سنوات أربع مع انطلاقة ثورة يوليو المجيدة التي لخّصت بأهدافها وتطلعاتها بواكير وعيه القومي الذي كان قد مارسه نضالاً في سبيل فلسطين قبل أن يعتنقه فكراً راسخاً مع مارد الأمة الأسمر. لقد آمن معروف سعد بالاشتراكية العربية التي قدمتها ثورة يوليو المجيدة. لم يكن منظّراً للاشتراكية وأطروحتها، كما لم تشغله السفسطات الفكرية ولا المماحكات الأيديولوجية بين اشتراكية علمية وأخرى مثالية. كان اشتراكياً وحسب. مارس اشتراكيته انحيازاً إلى جانب الكادحين وصغار الكسبة، ووقف إلى جانب قضايا العمال البساتنة في صيدا والجنوب، وإلى جانب مزارعي التبغ وفلاحي الريف في وجه كل صنوف الإقطاع والقهر، وتوّج حياته شهيداً في مواجهة الاستغلال والاحتكار لشركة البروتيين التي أسسها بعض اليمين اللبناني الجشع لسرقة قوت الصيادين وتعبهم وشقائهم.لقد شكل معروف سعد في حياته أنموذجاً للمناضل الوطني والقومي الذي مارس نضاله في ميدان المقاومة المسلحة حيناً، والمقاومة السياسية والاجتماعية والمطلبية حيناً آخر. غير أنه في كل ميادين النضال لم ينشغل يوماً عن فلسطين بوصفها بوصلة الكفاح القومي، فظلّت في قلبه ووجدانه وفي يوميات نضاله. ولا يزال الصيداويون والجنوبيون عموماً يذكرون كيف كان يجمع السلاح والعتاد دعماً للقضية الفلسطينية، وكيف أنه مع انطلاقة الثورة الفلسطينية كان لها المعين والمدد في لبنان، فأنشأ المقاومة الشعبية في صيدا التي تولى تدريبها مع رفيق دربه خضر سكيني «أبو درويش» في بساتين المدينة، بعيداً عن أعين المخابرات، فاستحق بجدارة لقب المناضل الفلسطيني بامتياز.
ما أحوجنا في ذكرى استشهاد المناضل الوطني الكبير معروف سعد إلى تلك القامة العروبية القومية الفذّة كي تعيد توجيه بوصلة الكفاح في سبيل فلسطين بعد أن أضاعها الكثيرون. ما أحوجنا إلى نقاء نضاله وسموّ انتمائه إليها بعيداً عن أي مصلحة أو غاية أو منفعة.