في 1 كانون الأول الماضي، أُخلي مبنى العيتاني في المصيطبة بسبب خطر تعرّضه للانهيار. بعد أقل من شهر، وفي 30 كانون الثاني، أُخلي مبنى "الشدياق" في منطقة المتحف للسبب نفسه.
أول من أمس، حاولت القوى الأمنية تنفيذ إخلاء مبنى "السباعي" في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية بسبب خطر تعرّضه للانهيار أيضاً.
مواجهة مخاطر انهيار المباني تحصل "بالمفرّق"، ما يعيد طرح غياب استراتيجية واضحة من أجل معالجة ملف المباني المعرّضة للخطر، والمُقدّرة بأكثر من 16 ألف مبنى في لبنان، منها نحو 10 آلاف مبنى في محافظة بيروت (تقديرات "شبكة سلامة المباني). كذلك، فإنّ هذه الأحداث تفضح، مجدداً، الخلل المؤسساتي على صعيد "احتواء" الحدث وتلبية متطلباته بالشكل المفروض وعدم الاكتفاء بتجنيب الأهالي خطر الموت تحت أنقاض بيوتهم عبر إجبارهم على الإخلاء من دون تأمين بديل لهم.
منذ نحو سنة، أُخلي مبنى "السيد" في حي اللجا. حينها، أُجبر الأهالي على إخلاء بيوتهم ودُفعت لهم تعويضات مؤقتة لإيجاد بديل الى حين الانتهاء من الترميم. تُفيد المعطيات الى أنه حتى الآن، لم يعد الأهالي الى بيوتهم بسبب توقف الشركة عن القيام بالأعمال، لأنها لم تتقاضَ المبلغ بعد كاملاً، ولا يزال الكثير من سكان هذا المبنى يرزحون تحت "عبء الإيجارات" بعدما نفدت أموال المُساعدات.

رفض الإخلاء

انطلاقاً من هذا الواقع، وتخوّفاً من تكرار السيناريو نفسه، يصرّ سكان مبنى "السباعي" على الاعتصام في بيوتهم، بعدما رفضوا الامتثال لأوامر محافظ جبل لبنان وبلدية برج البراجنة القاضية بضرورة إخلاء المبنى. "ما متنا، بش شفنا اللي ماتوا"، تقول إم حسين، إحدى القاطنات في المبنى و"قائدة" تحرّك الأهالي الرافض للإخلاء، مُشيرة الى عدم ثقة السكان بالطرح المُقدّم اليهم، والذي يقضي بإخلاء بيوتهم لمدة ثلاثة أشهر، على أن يعودوا الى بيوتهم بعد ترميم المبنى.
عدم الثقة بتنفيذ الوعد هو الدافع الأساسي لتمسّك الأهالي بالبقاء في بيوتهم. يُجمع هؤلاء على أنهم مُستعدون لإخلاء بيوتهم "عندما يلمسون المباشرة الفعلية لأعمال الترميم، وعندما يتم تأمين بديل لهم".
يقع المبنى مقابل مدرسة الحكمة الابتدائية في حي المعمورة في برج البراجنة. يزيد عُمره على ثلاثين عاماً، وهو مؤلف من تسعة طوابق و18 شقة.
من بين 18 عائلة تسكن في المبنى، هناك شقتان فقط يسكنهما مُستأجرون، أما بقية الشقق فهي ملك العائلات التي تقطنها.
من بين جميع سكان المبنى، أخلت مُستأجرة واحدة فقط بيتها، أول من أمس، بعدما أُصيب ابنها البالغ من العمر ست سنوات بحالة من الهلع و"الوسواس" بسقوط المبنى على رأسه وهو نائم. أمّا بقية السكان، فلا يزالون على موقفهم الرافض للإخلاء قبل الحصول على وعود "ملموسة".
يُفضّلون الموت "وهم مظلومون" على أن يموتوا في الشارع. وعلى قاعدة "المسلّم الله"، يُصرّون على التشبث ببيوتهم.
حتى اليوم، نجحت أم حسين في التصدّي لعشرات العساكر الذين كانوا يهمّون بوضع شمع أحمر على المبنى. هدّدت بإحراق زوجها المُقعد وبقتل نفسها في حال أرادوا تشريدهم من دون تأمين بديل لهم. برأيها، كما رأي بقية الأهالي، الدولة وحدها المسؤولة عن المأساة التي حلّت بهم.

غشّ التراخيص القاتل

منذ نحو عشرين يوماً، استفاق سكان المبنى على صوت "انفجار" عمود رئيسي من العواميد الخارجية للمبنى. حينها، لجأ الأهالي الى "عمّار" ليقوم بترميم العمود لتدعيم المبنى، لكنهم أُخبروا بأن الوضع "أكبر" من مجرّد عمود، ونصحهم "العمّار" باللجوء الى البلدية. وبعد نحو أُسبوعين، قامت اللجنة الفنية المُكلّفة من قبل البلدية بالكشف على المبنى؛ وعليه، قامت البلدية بإنذار سكان المبنى بضرورة تكليف مهندس إنشائي يُعدّ تقريراً فنياً لتبيان المشاكل ومواقع الخلل في البناء القائم على العقار رقم 2101 والحلول المقترحة والأشغال اللازمة، "وذلك بعدما تبيّن تصدّع عدد من أعمدة البناء وتآكل الحديد، وذلك خلال 3 أيام من تاريخ 11/2/2017، إضافة الى إخلاء المبنى فوراً، وذلك حفاظاً على سلامة القاطنين والسلامة العامة، تحت طائلة تحميلكم كافة المسؤولية القانونية". لم يلتزم الأهالي بقرار الإخلاء، ما اضطرّ البلدية الى تأمين مؤازرة من الشرطة البلدية لإخلاء المبنى بشكل مؤقت إلى حين ورود تقرير الخبير واتخاذ الإجراءات المناسبة. لكن تصدّي الاهالي للقوى الأمنية حال دون الإخلاء.

رخصة بناء المبنى
تقضي بإنشاء خمسة طوابق أضيف اليها أربعة



الرواية المُشتركة بين الأهالي والبلدية تُفيد بأن السند الأساسي للمبنى كان يقضي الترخيص بإنشاء خمسة طوابق مع إنشاء السطح، "إلا أنه جرى إضافة ثلاثة طوابق إضافية عليه". سرعان ما يُبادر الأهالي الى القول إن سكان الشقق في هذه الطوابق "لديهم سند أخضر، وإن الموافقة على إنشاء هذه الطبقات تتحمّل مسؤوليتها أولاً وأخيراً الدولة".
اللافت أن هناك مبنى مواجهاً للمبنى المذكور، واسمه مبنى "السباعي أيضاً"، مالكه هو نفسه، وهو أيضاً مهدد بالسقوط و"حالته" مُشابهة. وبحسب أم علي، أول من قطن المبنى المواجه منذ نحو 34 سنة، فإن المبنى تم الترخيص له على أساس أنه يتضمن خمسة طوابق مع سطح، وحدثت "الزعبرة" لإنشاء ثلاثة طوابق رئيسية.
يتساءل رئيس بلدية برج البراجنة عاطف منصور، في اتصال مع "الأخبار"، عن مسؤولية نقابة المهندسين عن إصدار رخص وعن مسؤولية الدوائر العقارية التي تصدر عنها هذه السندات، لافتاً الى "الثمن الذي تدفعه مئات العائلات نتيجة غش الدوائر والجهات المستفيدة".
من جهته، يقول رئيس نقابة المهندسين في بيروت خالد شهاب، في اتصال مع "الأخبار"، إن إعطاء هذه الرخص ليس من صلاحيات نقابة المهندسين، لافتاً الى أن الغش والتزوير يكونان من مسؤولية من يبتّ هذه المسألة. ويُضيف: "عادة تصدر هذه التراخيص من قبل التنظيم المدني والبلديات".

تأمين بدلات الإيواء والترميم

يقول منصور إن المسح الفني باشره المهندسون الإنشائيون، لافتاً الى أنه في غضون يومين يكون التقرير النهائي قد أُنجز، "على أن تبتّ الهيئة العليا للإغاثة مسألة مُساعدات الإيواء المخصّصة لسكان المبنى". ويُشير التقرير الفني الأوّلي المودع لدى البلدية، إلى أن الاتجاه العام يقضي بترميم المبنى لا بهدمه. وفيما يلفت منصور الى عجز البلدية عن تأمين الأموال اللازمة لإجراء الترميم، يطرح تساؤل حول المصدر الذي سيُموّل هذه التكاليف. يقول منصور إن التواصل مع "الهيئة العليا للإغاثة" يدور حالياً حول تأمين أموال "الإيواء" البديل للسكان، فيما لا تزال مسألة تأمين أموال الترميم معلّقة!
هذا الواقع يُعزز مخاوف الأهالي "المُحقّة". تقول عروبة، إحدى القاطنات في الحي، إن الدولة لو "تُنفق الأموال التي تنفقها كمساعدات بدل وإيواء على المسوحات والترميم، لوفّرت علينا عناء الخطر والتشريد معاً".