اشتعل مخيم عين الحلوة مجدداً. أمس، كانت الاشتباكات عنيفة إلى درجة تكاد تكون غير مسبوقة، ولو أنها اتخذت شكل التراشق بالنار والقنص والقذائف، لا الاشتباكات المباشرة. لكن حدّتها أدّت إلى إقفال طريق بيروت ــ صيدا ــ الجنوب المحاذي للمخيم، وإلى توتر عمّ عاصمة الجنوب، تسرّب بعضه إلى باقي المناطق اللبنانية. استنفار أمني كبير، داخل المخيم وفي محيطه، وحديث عن نقل قوات تابعة لحركة فتح، ولـ»المنشقين» عنها، من مخيمات الجنوب إلى عين الحلوة، بتسهيل من الجيش.
اشتعل المخيم من دون أن يدري أحد لماذا اشتعل. وهدأ من دون أن يدري أحد السبب. لا حقيقة ثابتة في مخيم الشتات الأكبر سوى أن من يملك «المونة» لوقف إطلاق النار هو نفسه الذي يملك «المونة» لإشعالها. ماذا يجري في المخيم؟ هل هي تصفية حسابات بين محمود عباس ومحمد دحلان أم أنه الصراع بين عباس وحركة حماس على من يُمثّل الشعب الفلسطيني في الشتات؟ أم أنه هزّة عصا من الأجهزة الأمنية اللبنانية والفلسطينية للضغط على الفصائل الإسلامية، وعلى رأسها عصبة الأنصار، لتسليم المطلوبين المتورطين في عمليات إرهابية أو دفعهم إلى مغادرة المخيم؟ أما هي معركة شنّها الإرهابيون ليوجّهوا رسالة إلى «كل من يعنيهم الأمر» بأن القرار الأمني في المخيم وبوابة الجنوب ملك لهم وحدهم؟

يهدف الاشتباك إلى الضغط على الفصائل الإسلامية لطرد المتورطين في عمليات إرهابية

تزدحم الأسئلة التي يبدو أن جميعها منطقي للوهلة الأولى، لا سيما أن معاينة مسار الأحداث يؤكد أن ما يجري لا يعدو كونه تقاطع مصالح في أزمة تراكمت عقدها. غير أن المؤكد هو أن ما يجري في المخيم تتحمل مسؤولية إدارته أكثر من جهة. مصادر متعددة أكدت أن أحد أهداف الاشتباك الأمني في المخيم الضغط على الفصائل الإسلامية لطرد المتورطين في عمليات إرهابية خارج المخيم أو دفعهم إلى تسليم أنفسهم. وتستند هذه المصادر الى التحقيقات الأمنية والتوقيفات الأخيرة التي كشفت ارتباطاً وثيقاً بين مطلوبين مختبئين في المخيم وخلايا تسعى للقيام بعمليات إرهابية في الداخل اللبناني. وفي هذا السياق تضع المصادر صرخة المتحدث باسم «عصبة الأنصار الإسلامية» أبو شريف عقل الذي قال أمس: «أتوجه إلى كل الذين يُشار إليهم بالبنان على أنهم متورطون في العبث بالأمن، أطلب منهم أن يخرجوا من المخيم فوراً. لم يعد مخيم عين الحلوة يصلح لأن يكون ملجأً سوى لأبنائه». وأبرز المعنيين بكلام عقل هو المطلوب اللبناني شادي المولوي. وتنقل المصادر أن الجيش أبلغ الفصائل الفلسطينية رسالة شديدة اللهجة: «لن نرضى أن يستمر هؤلاء بالعبث بالأمن اللبناني وهم موجودون بحمايتكم في المخيم». وقد ترددت معلومات أن الفصائل الفلسطينية تعهدت لاستخبارات الجيش بتسليم المطلوبين اللبنانيين داخل المخيم. وفي هذا السياق، يُعلّق القيادي الفتحاوي المفصول محمود عيسى، الملقب بـ«اللينو»، الذي دخل المعركة إلى جانب حركة فتح ضد المسلحين الإسلاميين في حي الصفصاف: «اللجنة الأمنية لم تأخذ يوماً إجراءً فعلياً ولم تقم بدورها. في عمليات الاغتيال، كان يُعرف القاتل، لكن لم يُحرّك أحد ساكناً. كان يخرج هؤلاء بعد أن يرتكبوا جرائمهم من دون أقنعة». لكن هل سيهدأ المخيم بعد تشكيل قوة أمنية جديدة؟ يردّ اللينو: «لا أمن بالتراضي. إن أُعطيت القوة صلاحيات ننجح، لكني لست متفائلاً. المشكل بين الإجماع والمتطرفين. عليهم أن يقولوا ما هي المشكلة. كيف ستجد حلاً من دون تحديد المشكلة». في مقابل هذه الرواية التي تجعل من المطلوبين الإسلاميين عبئاً يُثقل كاهل المخيم، يقول قيادي إسلامي بارز من حي الصفصاف لـ«الأخبار»: «هذا الصراع هو بين فتح والدحلان وحماس على من يُمثّل الشعب الفلسطيني في الشتات». ويرى القيادي المذكور أن «الكل يكيد بعضهم لبعض، ومخيم عين الحلوة هو ساحة الرسائل، وبعض الشباب المحسوبين على الحالة الإسلامية أصبحوا كأحجار على رقعة الشطرنج».
في موازاة ما سبق، كانت قد ترددت معلومات من مصادر أمنية لبنانية وأخرى من «فتح» عن نية محمد دحلان استغلال زيارة عباس للبنان من أجل إحراجه. لكن مصادر أخرى تشير إلى أن من افتعل الاشتباكات هم المتطرفون الذين أرادوا توجيه رسالة إلى عباس والدولة اللبنانية معاً، بعد المعلومات التي تحدّثت عن أن عباس طلب تسليم أمن المخيمات إلى الجيش اللبناني.
خلال الاشتباكات اجتمعت الفصائل في عين الحلوة. حضر الاجتماعات ممثّلو كل الاطراف الفلسطينية، حتى فتح المنقسمة بين جناح يؤيّد دحلان برئاسة اللينو الذي كان حاضراً الى جانب اللواء صبحي أبو عرب المسؤول العسكري لـ»فتح ــ أبو مازن»، وكانا معاً في المعركة ضد بلال بدر. فالعلاقة بين اللينو والإسلاميين سيّئة، والمعركة بينهما «كسر عظم»، كما يصفها أحد مسؤولي الفصائل. حتى الآن من غير المفهوم سبب اندلاع الاشتباكات في المخيم. السبب المعلن هو تلاسن بين سيدتين، لكن لماذا توقيت اندلاعها خلال زيارة عباس؟ ولماذا دخلت جليلة دحلان وولدها فادي الى المخيم خلال الاشتباك؟ أغلب مسؤولي الفصائل لا يملكون أجوبة لهذه الأسئلة. الأهم بالنسبة اليهم تهدئة الأوضاع حالياً.
توقفت اشتباكات مخيم عين الحلوة بعد يومين على اندلاعها. مساء أمس، هدأت الأوضاع في المخيم بعدما عقد مسؤولو الفصائل اجتماعاً في السفارة الفلسطينية، أصدروا بعده بياناً أعلنوا فيه تشكيل قوة أمنية جديدة مؤلفة من نحو ١٠٠ عنصر لضبط أمن عاصمة الشتات الفلسطيني. وخلال اجتماع السفارة، حضر ممثلون عن كل الفصائل، وأصدروا بياناً مشابهاً لكل البيانات السابقة، وقرروا الاستعانة بوجهاء المناطق للنزول الى الشوارع والتحاور مع المشتبكين لسحب المظاهر المسلحة من أزقة المخيم. وبحسب مصادر المجتمعين في السفارة، فقد تقرر هذه المرة إعطاء هذه القوة صلاحيات لتنفيذ مهماتها الأمنية من دون محسوبيات، إذ لم تستطع القوة الأمنية السابقة برئاسة القيادي الفتحاوي منير المقدح تنفيذ مهماتها بسبب هذا العائق. غير أن المقدح قال لـ«الأخبار» إن «القوة لم تكن تملك صلاحيات تنفيذية تخوّلها ضبط الوضع الميداني في المخيم. فعندما كنا ننوي اعتقال أي مطلوب، كنا نوقف العملية إذا اعترض أو تحفّظ أي فصيل». وأضاف: «إن كانت هناك جدية لدى الفصائل لضبط الوضع، فلن تُطلق طلقة واحدة». لكنه يلفت إلى أنه إذا كانت القوة الجديدة كاللجنة الأمنية السابقة، «إذا بدك تحرك دورية، تحتاج إلى موافقة 16 فصيلاً... فإنها ستفشل حكماً»، علماً بأنه بعد تفريغ عناصر وتخصيص موازنات للقوة الامنية السابقة، استقال المقدح من رئاستها بعد اتهامه بعدم قدرته على ضبط الأوضاع.
غير أن اللافت ميدانياً، وعلى خلاف المعارك السابقة، أنه لم يسعَ أي طرف للسيطرة على مراكز الآخر. وكانت الاشتباكات والقذائف ترمى من بعيد، مستهدفة بيوت المدنيين. مصدر قيادي في «عصبة الأنصار الإسلامية» قال لـ«الأخبار»: «رغم قرارنا الواضح بالتهدئة، أُطلقت علينا قذيفة من إخواننا في حركة فتح. ثم أتبعوها بقذيفة أخرى قتلت شاباً بريئاً من بين المدنيين وسقط خمسة جرحى. لم يصب أحد من المسلحين. أقول إخواننا لأننا محكومون بالعيش جنباً إلى جنب وقضيتنا قضية فلسطين لا قضية المخيمات». ورغم حرص المسؤول الإسلامي على التهدئة، أكد أن «العصبة» تحرص على امتصاص النقمة والتهدئة، رغم الاستفزازات حرصاً على المخيم. وإذ يؤكد القيادي المذكور أنه لا يوجد مشروع لدى فتح أو الحالة الإسلامية لتدمير المخيم، إلا أنه كرر مقولة استخدام المخيم كصندوق بريد لإرسال الرسائل. في المقابل، أكّد مسؤولون أمنيون أن الطفل الذي قضى أمس استهدفه قناص من الإسلاميين المتشددين الذين تسبّبوا في اندلاع الاشتباكات.
من جهة أخرى، رأت مصادر الفصائل الفلسطينية والتنظيم الشعبي الناصري أن دعوة النائبة بهية الحريري إلى إقفال مدينة صيدا اليوم غير مبررة، وتعزز أجواء التوتير، علماً بأن الأجواء في المخيم كانت تتجه نحو الهدوء منذ عصر أمس.