يعرف اللبنانيون أن موقع بلدهم على سلم الفساد في العالم قد هبط عام 2016 إلى المرتبة 136 من أصل 176 بلداً، وفق آخر مؤشرات منظمة الشفافية الدولية، ولا يخفى عليهم ما تكتبه وتقوله يومياً الصحف وغيرها من وسائل الإعلام حول تكاثرالفضائح وحالات الرشى وسرقة المال العام على كافة الصعد، وإن هذا الفساد هو أول سبب لتفاقم الدين العام وتردي الأوضاع الاقتصادية، من البطالة إلى الهجرة، مروراً بالتضخم المالي وتباطؤ الاستثمارات الإنتاجية وتراجع الثقة في المستقبل.
هذا فضلاً عن تلوث البيئة والعجز المفجع في توفير المياه والكهرباء، وغير ذلك من حاجات المواطنين الأساسية.
إلا أن فرصاً قليلة أُتيحت للمواطنين كي يدركوا أن الآتي قد يكون أسوأ وأعظم بكثير مما عاشوه حتى اليوم، خاصة في القطاع الذي يحق لهم أن يبنوا عليه الكثير من الآمال، ألا وهو استغلال ثروة البترول والغاز الموعودة. والسبب في ذلك أنّ كل التدابير التي يمكن تصورها قد اتُّخذت لمنع الرأي العام من معرفة ما يجري في كواليس هذه المسيرة، بما في ذلك انعدام الشفافية وحصر المسؤولية عن هذا القطاع الحيوي بين أيدي حفنة من موظفي وزارة الطاقة يعملون دون مساءلة، بتوجيه مِمَّن وضعهم حيث هم.
ليس من الضروري تكرار ما سبق عرضه طويلاً على هذه الصفحات وغيرها من انحرافات أخطر ما فيها كفّ يد الدولة وشلّ دورها المحوري في هذا القطاع، لفسح المجال لمصالح خاصة كي تنهب ما يمكن أن يكون واحداً من أكبر الموارد الطبيعية في لبنان. لكن من الضروري تسليط الضوء على أهم الأساليب المتبعة لتصوير الواقع، جهلاً أو عمداً، على غير حقيقته. ومن أحدث الأمثلة على ذلك، ما قاله وزير الطاقة في خلال مساءلة الحكومة في 7 نيسان، ثم عاد وكرره، مضيفاً إليه أموراً أخرى، في الحديث إلى برنامج «بلا حصانة» على شاشة OTV بتاريخ 11 نيسان.
أول نقطة تلفت الانتباه هي أن الوزير المذكور استنكر ما يقال عن شركات صورية جرى تأهيلها عام 2013 للحصول على حقوق استكشاف وإنتاج، وقال إن النائب بطرس حرب، الذي أثار هذا الموضوع، لم يذكر أياً من أسماء هذه الشركات. ومن العجيب أن يتجاهل وزير الطاقة أسماء الشركات المشار إليها، والتي أصبح الكل يعرفها ويعرف من أسسها، وفي طليعتها Apex Gas التي سجلت في هونغ كونغ برأسمال يوازي 1290 دولاراً أميركياً، وPetroleb التي سجلت في بيروت. هذان الاسمان كتبا حبراً على ورق على اللائحة الرسمية للشركات المؤهلة التي أُعلِنَت في شباط 2013، إلى جانب شركات مارقة تخصّ عائلات خليجية ومشهورة بالملاحقات القضائية ضدها، والتي ــ وليس هذا من باب الصدف ــ تحالفت مع إحدى الشركات الصورية.

أخطر الانحرافات كفّ يد
الدولة وشلّ دورها المحوري خدمةً لمصالح خاصة

النقطة الثانية والأهم تتعلق بطبيعة نظام الإنتاج المعتمد، الذي عاد الوزير نفسه وكرر دون تردد في حديثه التلفزيوني أنه «نظام تقاسم الإنتاج». عفواً يا صاحب المعالي، للتذكير أنه لم يعد أي معنى للحديث عن نظام تقاسم الإنتاج، ما دامت المادة 5 من نموذج عقد الاستكشاف والإنتاج تنص، خلافاً للقانون 132/2010، على أنه «ليس للدولة نسبة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»، وما دام كل مواد المرسوم تتعارض ومقومات هذا النظام التي تستلزم مشاركة الدولة الفعلية في الأنشطة البترولية، عبر شركة نفط وطنية، وما دام كل مواد المرسوم 43 تتعارض كلياً مع هذه المقومات وتختزل دور الدولة بطلب تعيين مجرد «مراقب» يحق له حضور بعض اجتماعات لجان إدارة الشركات العاملة! وإن كان عذر عدد من المسؤولين في وزارة الطاقة أن لا دراستهم الجامعية ولا تجربتهم المهنية أتاحت لهم الاطلاع على هذا الجزء من القانون والاقتصاد البترولي، فالأحرى بهم الاستعانة بمسؤولين في دول منتجة أخرى، بما فيها النروج التي يتغنون باقتباس «نموذجها»، كي يفسروا لهم طبيعة وآلية عمل نظام تقاسم الإنتاج، والفروقات بينه وبين الأنظمة الأخرى. كذلك يمكن دعوة بعض العاملين في هذا القطاع في النروج أو الجزائر أو مصر أو إندونيسيا أو غيرها لحوار تلفزيوني ليقولوا للمسؤولين وغيرهم إن كان بالإمكان اعتبار ما نص عليه المرسوم 43 نظام تقاسم إنتاج أو لا.
النقطة الثالثة تعود لاستهجان وزير الطاقة لتساؤل النائب روبير غانم، رئيس لجنة الإدارة والعدل في المجلس النيابي، عن هوية الذين تولوا صياغة ما لا يقل عن 27 مرسوماً تطبيقياً في خلال أشهر قليلة، دون علم السلطة التشريعية المختصة، خاصة أن هذا التساؤل كان في محله، نظراً إلى أن معظم أعضاء هيئة إدارة قطاع البترول الستة لم يكن لديهم الوقت الكافي ولا الكفاءة اللازمة للقيام بعمل يتطلب درجة عالية من التجربة والحرفية. هذا مع الاحترام لمؤهلاتهم الأخرى المعروفة. يضاف إلى ذلك أن تساؤل النائب روبير غانم يتقاطع تماماً مع صرخة الاستنكار التي أطلقها النائب محمد قباني، رئيس اللجنة النيابية للأشغال العامة والنقل والطاقة، عندما قال في أواخر آب 2016، تحت قبة البرلمان: «إن أسوأ ما في مسيرة النفط والغاز الحالية هو الغموض الذي يحيط بالمعلومات ومحاولة إحاطتها بالسرية، حتى على المجلس النيابي، وهو أمر معيب يجب أن نخجل منه وننقلب عليه... لن نقبل باستمرار هذه السرية المريبة، وحتى الآن لم نحصل على معلومات حول المرسومين الموجودين لدى مجلس الوزراء، وهذا أمر مرفوض من مجلس النواب، وهو سلطة الرقابة العليا في البلاد».
نقطة رابعة، هي أن الوزير نفسه أكد أن وزارته أجرت اتصالات مع الخمسة وعشرين شخصاً (بينهم وزراء ونواب سابقون وأساتذة جامعات ومحامون ورجال إعلام واقتصاد) وقّعوا على الكتاب المفتوح الذي وجه إليه في 20 شباط الماضي، وذلك للاجتماع معهم. إلا أنه فوجئ، كما قال، بأن بعضهم «لم يكونوا على علم بهذا التوقيع»! كذلك اعتذر عن عدم ذكر أسمائهم! إلا أن كاتب هذه السطور يطلب منه بإلحاح البوح بهذا السر الذي يحتفظ به لنفسه كي يبنى على الأمر مقتضاه. هذا إلا إذا كانت كل هذه القصة الظريفة مجرد مزحة من نظم معاليه وتلحينه!
نقطة خامسة، تتعلق بشفافية مسيرة البترول والغاز التي ما فتئ وزير الطاقة يردد في كل مناسبة أو دون مناسبة أنها «على أعلى درجة ممكنة في العالم»، ما دام لبنان سيكون أول بلد على الكرة الأرضية يطلب الانضمام إلى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI). ولا بد هنا من تذكير معاليه بأن الشفافية لا تؤمن عبر تصريحات رنانة، أو عبر الوقوف في طليعة المطبلين والمزمرين للشفافية، على أمل أن يطغى ضجيج التطبيل والتزمير على صوت ما يجري على أرض الواقع. أما نية الانضمام إلى EITI، فلا بد من انتظار تقديم الطلب والمستندات ودراستها والموافقة عليها وإعطاء الرأي فيها من قبل المنظمة المذكورة. وفي حال حصول ذلك، فأغلب الظن أن ما سيحصل هو ما حصل في كينيا الاستوائية وأوكرانيا اللتين طلبتا الانضمام إلى منظمة PWYP المماثلة، ولكن سرعان ما تراجعتا عن ذلك بعد الاطلاع على شروط الانضمام.
أخيراً، لا بد من التنويه في هذا السياق بنوع جديد من التضليل جاء أخيراً على شكل تزوير مقال نشرته في 27 كانون الثاني الماضي، في صحيفة لبنانية، السيدة أناليزا فيديرينو، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي إلى لبنان، تحت عنوان «موارد لبنان النفطية المستقبلية، كيف تصبح ذات منفعة عامة؟». ويتمحور المقال حول ضرورة توفير الشفافية والتصدي للفساد وإدارة مالية سليمة، تأخذ بالاعتبار حقوق الأجيال القادمة، إلى أن ينتهي في الخلاصة إلى التأكيد «ويعد المرسومان الصادران في أوائل هذا العام بداية جيدة» لمسيرة لبنان النفطية. هذا وبما أن كلمة «جيدة» تتعارض من حيث الشكل والمضمون مع كل ما جاء في المقال، وبعد التدقيق تبين لكاتب هذه الأسطر أن كلمة «جيدة» غير موجودة في النص الأصلي بالإنكليزية الذي وضعته رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي، وأن يداً خفية قد امتدت لإقحامها زوراً في الترجمة العربية. إذ إن النص الإنكليزي ورد فيه: The» legislation passed early this year is a start. Ultimately, however, the crucial point is that oil and gas resources belong to and are for the Lebanese people».
هذا غيض من فيض الانحرافات وعمليات التضليل التي تغوص فيها منذ سنوات مسيرة البترول والغاز عندنا، وكلها تصرفات تهدف أولاً وآخراً إلى نهب الثروة النفطية من قبل بعض المصالح الخاصة، وبشكل لا نجد له مثيلاً في أي بلد من بلدان العالم الأكثر فساداً.