نحن الآن في منطقة الـ«1701». ممنوع دخول المدنيين. البحر قطعة زرقاء ناصعة كالسماء، والناقورة قطعة ناقصة من البحر. الأرض للأشجار والأحراش. الجبال التي لا نعرف ما الذي تخبئه. الجبال نفسها التي ترمي معاطفها من القصائد القديمة وتخبئ المقاتلين. خلف الموقع المعادي يستريح البحر.
وهناك نهاريا والكيبوتسات. أرض الفلسطينيين. وتاريخ الهاغانا. وبعد كل شيء حيفا. وما بعد حيفا، صارت «لازمة»، تتكرر أحياناً للمزاح، وأحياناً بجدّية. ومن خلف السياج، صحافيون لبنانيون. وأجانب يستشرقون. وهناك جندي من الكتيبة الايطالية يشبه المكان. يشبه الأرياف بشكلٍ عام. يقول إنه من صقلية، لا من ميلانو. من صقلية يعني أنه من البحر. لكنه شجع يوفنتوس أمس، ضدّ برشلونة. نعترض، من باب المزاح، فتورينو في الشمال، وصقلية في الجنوب. وفي إيطاليا العلاقة «شائكة» بين الشمال والجنوب. يوافق ضاحكاً، ولكن «كلنا إيطاليون»، يقول.
خلف الجبل يمتد الجليل.
تاريخياً تُسمى المنطقة بالجليل. كثيرون يستخدمون التسمية ولا يعرفون جذورها ولا أصولها. وجبل الجليل، بالعبرية، يعني «الدائرة»، والأصح «الدارة»، أي المكان الدائري. وإذ نتحدث عن جولة «محدودة» على أطراف جبل عامل، للتعرف إلى «عينة» من تحصينات معادية (أقامها جيش الاحتلال داخل الأراضي الفلسطينية) تمتد من «الناقورة إلى شبعا»، فلا ضير من بعض الاشارات الجغرافية. الجليل الدائري ينقسم إلى شطرين. الجليل الأعلى، وهو يشكّل الجزء الأكبر، مما يطلق عليه سكان الجنوب تسمية «جبل عامل». اسم الجليل يرد في «العهد الجديد». وأهله يعرفونه بالاسم الجديد. يفضّلون مفردة «عامل»، وهو ما يتشكّل من «الجليل الأعلى» ومن الشقيف. التحصينات في كل مكان، والاستعدادات الحربية متنوعة. السياج الشائك الذي تعرفونه. الفاصل بين أوصال الجليل. البلوكات الاسمنتية، التي، للمفارقة، تنتشر في مدننا المفرطة في الكآبة. الأنفاق التي يتراوح عمقها بين 8 و15 متراً، لإعاقة تقدم «مهاجمين محتملين» (من لبنان إلى فلسطين!). وهناك تحصينات ورادارت وأشياء لا تخطر في البال، ونحن العاديين لا نفهم فيها. كل ما نعرفه أنها عسكرية وأنها ضدّنا. يشرح قائد عسكري من حزب الله للصحافيين، من أمام مستعمرة «شلومي». الجنود في الخلف يتبعون «قيادة اللواء الغربي»، وتالياً، لقيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. يردد المسؤول في حزب الله تفاصيل للحاضرين... «يوآل ستريك صار قائداً للمنطقة الشمالية».

شوهد في الجولة محللون تلفزيونيون «معروفين» اصطادوا كاميرات الفضائيات وأطلقوا تحليلاتهم


لا يتحمسون كثيراً، جيل جديد من الصحافيين الذين يتصرفون كما لو أنهم في كرنفال. يتحدثون جميعاً في الوقت نفسه، حتى عندما يعرّفهم إلى أسماء الفرق الإسرائيلية، فرقة الجليل، وغولاني، وعندما يخبرهم أن كل فرقة تنقسم إلى ألوية، وكل لواء ينقسم إلى كتائب. ثم فجأة، يستمعون باهتمام، رغم أنه، وبوضوح تام، يبدو أنهم لا يفهمون كثيراً في التفاصيل العسكرية التي يتحدث عنها. و«سوء الفهم» يشمل «النجوم» الذين يقفزون من شاشة إلى شاشة، المحللون المفوّهون الذين تكبدوا عناء الصعود إلى آخر الحدود، لاصطياد الكاميرات، على الفضائيات، واطلاق التحليلات «من خارج الموضوع». ولكن الضابط في الحزب تابع عمله، ولم يكترث كثيراً لما يقوله المحللون. أكمل عرضه بهدوء. هناك كتيبة في زرعيت، وأخرى في أفيفيم. زرعيت قرب عيتا الشعب، وأفيفيم التي تواجه مارون الراس، حيث حاول الإسرائيليون الدخول في 2006. وحسب ما يقوله المسؤول العسكري، فإن الإسرائيليين يفترضون أن الحزب هو الذي ينوي الدخول إلى الجليل، وها هم يتحصّنون في شلومي.
من ناحية الموقع الجغرافي، يشكّل جبل عامل الثلث الجنوبي من لبنان، ويمتد من نهر الأولي شمالاً، ووادي القرن جنوباً، حيث يقع البحر المتوسط بين هذين الحدين غرباً، أما من الشرق فتحدّه بحيرة الحولة ووادي التيم والبقاع. كذلك، ينقسم الجبل إلى قسمين، جنوبي وشمالي، يفصل الليطاني بينهما. ومن الناحية العسكرية، الاسرائيليون يتحصنون على طول الحدود، وهذا ليس خافياً على أحد، وإن كانت التحصينات الاسرائيلية ليست استثنائية من الناحية البصرية. أي أن جيش الصحافيين الذي أخذ إلى ما بعد الناقورة أمس، لم يكن باستطاعته فهم طبيعة التحصينات، لولا الشرح الذي قام به المسؤول العسكري. الحدث، هو أن هذه هي المرة الأولى، التي يظهر فيها رجل من هذا الموقع، أو فلنقل يحمل صفةً عسكرية لا سياسية، ويتحدث إلى الإعلاميين، في الجنوب. طبعاً كان الحديث موجهاً إلى الإعلاميين، ولكنه موجه إلى الإسرائيليين. هذا افتراض أول. الإسرائيليون الذين يستطيعون، أصلاً، الاستماع إلى كل شيء من خلف تحصيناتهم، عبر أجهزة التنصت والمراقبة المتطورة. في موقع «جل العلام»، فوق الناقورة وفوق البحر، شاهد الجميع على التلفزيون صوراً حيّة لـ«الطابات» العملاقة المثبتة على أبراج، والمخصصة لغايات أمنية تتعلق بالتجسس. وقبل أسبوعين تقريباً عرض تلفزيون «المنار» صوراً للتحصينات، لكن صوت «المنار» ليس مرتفعاً بما يكفي، ولا يمكنه غالباً تجاوز بيئة حزب الله، وبطبيعة الحال الصوت الذي يرصده ويستمع إليه الجانب الإسرائيلي بجدية. وإن كان الهدف من احضار كمية كبيرة من الصحافيين إلى الجنوب، والحديث عن حرب قد تضع اسرائيل في موقع الدفاع، هو توجيه رسالة، فإن رسالةً مثل هذه تلقاها الاسرائيليون قطعاً ومنذ وقتٍ بعيد.
الافتراض بأن الحزب يرفع سقف الخطاب مع الاسرائيليين لكي يخفضوا سقفهم أمر وارد، ولكن لا بد أن تكون هذه الرسالة موجهة إلى آخرين أيضاً. هذا افتراض ثان. وجود مسؤول عسكري من الحزب «على الهواء»، اضافة إلى مقاتلين في الطريق من الناقورة إلى علما الشعب، ليس حدثاً اعتباطياً، لأنه يشكّل في رمزيته قطيعة ظرفية مع تقليدٍ قديم، يقوم على رفض الحزب عرض أي تفاصيل عسكرية متعلّقة بادارة المعركة جنوباً، وتحديداً من الناحية الاعلامية. وفيما بدت التحصينات بالنسبة لكثيرٍ من المشاركين في التغطية أو بالمتابعة، غير جديرة بالاهتمام، فاعتبروا أن الحدث فضفاض على حجم التغطية، يبدو أن الجميع ابتلع «الطُعم». الطُعم، الذي كلف الحزب اشراك الاعلام في «جزء طفيف» من صورة عمله العسكري جنوباً، وهو ما ليس محبذاً بالنسبة لقادته العسكريين، أو على الأقل، ليس سائداً ولا متعارفاً عليه لدى متابعيه. لقد حرص منظمو اللقاء، خلف السياج الشائك، وعلى مقربة من «نقطة صفر» على أن لا يوجه الصحافيون أي أسئلة «سياسية» إلى المسؤول العسكري الذي قدم شروحات هامة عن طبيعة المنطقة وظروفها العسكرية، وإن كانت شروحات لا تصل إلى مصاف الأسرار. حرصوا على اعادة صورة الحزب إلى الإطار الذي أخرج منه اعلامياً في السنوات الأخيرة. صحيح أن الحزب لم يغادر جنوب لبنان وأن هذا ما زال معقله، لكن صورته غادرت المكان وارتبطت بأمكنة أخرى. وما حدث أمس كان في سياق إعادة الصورة إلى مكانها. على الطريق، تحصينات معادية، ومقاتلون لحزب الله يظهرون للمرة الأولى، وشبح «حرب باردة». حرب تخيّم فوق منحدرات علما الشعب، وتنزل بهدوء إلى شواطئ الناقورة، وما خلفها من جليلٍ ينقسم بين أرضين.




المستقبل والقوات: جولة الحدود استفزازية!

استبق رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع المواقف الاسرائيلية حول الجولة التي نظّمها حزب الله للإعلاميين على الحدود مع فلسطين المحتلّة، معلناً أن «الجولة خطأ استراتيجي، إذ أعطى الحزب انطباعاً وكأنه ليس هناك جيش لبناني رسمي مسؤول عن الحدود، والأسوأ من كل ذلك أعطى انطباعاً وكأن القرار الأممي 1701 أصبح في خبر كان... في الوقت الذي تغلي فيه المنطقة بالأحداث، وفي الوقت الذي تبرز فيه إسرائيل أكثر فأكثر عن نوايا عدوانية تجاه لبنان»، داعياً الحكومة اللبنانية إلى «الطلب من حزب الله الكف عن تصرفات من هذا النوع». وكأن العدوانية الإسرائيلية تنتظر جولة للصحافيين اللبنانيين والأجانب على الحدود، لكي تجد ذريعة للاعتداء على لبنان.
بدوره، واكب تيار المستقبل موقف رئيس القوات، معلناً في بيان أن «حزب الله يقدّم مرة أخرى مشهداً استفزازياً لأكثرية اللبنانيين، الذين تابعوا العراضة التي نظمها لوسائل الاعلام المحلية والأجنبية في الشريط الحدودي». وأضاف البيان: «لم يكن غريباً أن يقف جيش العدو الاسرائيلي موقف المتفرج على هذه العراضة، وربما المرحّب بتنظيمها، بصفتها دليلاً مضافاً من الأدلة التي يتمناها على غياب الدولة اللبنانية وسلطاتها عن مسؤولياتها في المناطق الحدودية».
يبقى السؤال، أيّهما أكثر استفزازاً؟ أن تعتدي إسرائيل يومياً على المياه والأجواء والتراب اللبناني؟ أم أن تنظّم المقاومة جولة علنية للصحافيين على الحدود للاطلاع على واقع الإجراءات التي يتخذها العدو لحماية مواقعه العسكرية والتجسّسية وتعزيزها؟