من المعروف أن المادة المتناثرة في بقعة محددة من الفضاء سوف تتكتّل مع بعضها تحت تأثير قوة الجاذبية فيما بينها، لتنمو تدريجياً وعلى مدى ملايين السنوات لتشكل جسماً كبيراً ذا شكل كروّي نتيجة طبيعة الحقل الجاذبيّ للمواد، وهذه هي طريقة تشكل الأقمار والكواكب.
إلّا أن التطابق التام بين المكونات الكيميائية للأرض وللقمر سواء لناحية الأنواع الموجودة أو نسب وجودها في طبقاتهما الخارجية والداخلية، يضع الكثير من الأسئلة حول دقة نظرية تصادم كوكب كبير بالأرض. إذ أن محاكاة نتائج هكذا اصطدام تشير إلى تفارق في تركيبة المواد المتناثرة فضاءً عن تلك المكوّنة للأرض، مما يعني ضرورة وجود فوارق واضحة بين تكوين الأرض وقمرها. تعود فرضيّة تصادم كوكب كبير بالأرض إلى سبعينيات القرن الماضي، واستندت تلك الفرضية إلى حقيقة أن الفترة الأولى من عمر المجموعة الشمسية كان فيها، على الأرجح، الكثير من الكواكب والأجرام الفضائية السابحة حول الشمس، والتي تصادمت أو اندمجت تدريجيّاً حتى استقرت المجموعة الشمسية على واقعها الحالي.
تم التأكد من دقّة التطابق بين مكونات الأرض والقمر في عام 2001 بعد أن جمعت مركبة "أبولو" عينات واسعة من تربة وصخور القمر وقامت بتحليلها من مواقع جغرافية مختلفة، مما ثبّت هذا التطابق وزرع بعض الشكوك والملاحظات حول نظرية اصطدام كوكب آخر كبير.

يوجد احتمال
أن تكون الأرض قد تعرضت لوابلٍ من الأجرام الفضائيّة الأصغر

تتم دراسة مكونات الصخور عبر تحليل نسب نظائر الأوكسيجين في كل منها وكذلك بعض المعادن الأخرى مثل التيتانيوم والزركونيوم، وكلّها أشارت إلى تطابق دقيق جدّاً بين الأرض والقمر. ووفق سيناريو التصادم الكبير، تشير كل المحاكاة الرقمية إلى ضرورة وجود نسب كبيرة من مكوّنات الكوكب الصادم بين المواد المتناثرة المكوّنة للقمر ومن المستبعد جدّاً أن يؤدّي تصادم كبير بين كوكبين إلى تناثر الموادّ من كوكب واحد منهما وهو الأرض.
تشير النظريات الجديدة إلى احتمالين علميين يؤديان إلى هذا التطابق بين مكونات الأرض والقمر. الاحتمال الأوّل هو أن يكون الكوكب الصادم مماثل في تكوينه لكوكب الأرض، مما يعني أن المواد المتناثرة متطابقة. أما الاحتمال الثاني فهو أن الأرض قد تعرضت لوابلٍ من الأجرام الفضائيّة الأصغر التي يؤدي اصطدامها بالأرض إلى إطلاق أجزاء منها مبعثرة إلى الفضاء، مع اندماج هذه الأجرام في بنية الأرض. ونتيجة أحجامها الصغيرة فهي لا تغيّر جديّاً في بنية الأرض الكيميائية ونسب تكوينها. ومع تكرر العشرات من التصادمات الصغيرة، تتراكم كمية المواد الأرضية الملفوظة إلى محيط الأرض، فتأخذ بالتكون والتكوّر في أجسام أكبر لتنتهي أخيراً في تشكيل كتلة كبيرة نشأ منها القمر مطابقاً للأرض. في هذا الإطار، تعمل الفرق البحثيّة اليوم على اختبارات نظريّة ومحاكاة رقمية بين هذين الاحتمالين اللذين يفسّران مسألة التطابق في تركيب الجسمين الشقيقين.
فرضية حدوث تصادمات صغيرة عديدة بدل التصادم الكبير تعود إلى ثلاثة عقود من الزمن، إلّا أن محدوديّة البرمجيّات القادرة على محاكاة هذه التجارب لم تسمح بتطويرها واختبارها. اليوم مع تعاظم قدرات الحواسيب، جرت هذه المحاكاة التي تقوم على فكرة حدوث تصادم مع جرم يبلغ بين 1% و10% من حجم الأرض، ويؤدي اصطدامه بالأرض إلى إطلاق مواد أرضية إلى الفضاء المحيطة بها، ومع الوقت تتجمع المواد الناتجة عن كل اصطدام لتشكل جرماً صغيراً. ومع تكرار التصادمات، تنشأ عشرات الأجرام الصغيرة السابحة حول الأرض، والتي تبدأ بالاندماج تحت تأثيرات الجاذبية لتشكل القمر بحجمه الحالي. ووفق هذا السيناريو، يمكن أن يتشكل حوالى 20 جرماً فضائياً صغيراً على مدى حوالى 100 مليون سنة، وتندمج مع بعضها في قمر كبير يوازي قمرنا الحالي في الحجم والتكوين والمسافة عن الأرض. لذلك أصبحت هذه الفرضيّة اليوم متداولة بشكل واسع بين الباحثين في أصول نشأة القمر، دون إهمال نظرية التصادم الكبير بشكل كامل.

توجد عملياً نظريتان علميتان ممكنتان لتفسير أصل نشوء القمر بتركيبة
مطابقة للأرض


على الرغم من الإشكاليّات التي تعتري نظرية التصادم الكبير، إلّا أن لهذه النظريّة أيضاً ما يبقيها على قيد الحياة. إذ أظهرت دراسة مجموعة من المذنبّات أن تكوينها أيضاً يتطابق كيميائيّاً مع التكوين الأرضي لناحية تواجد نظائر الأوكسيجين المختلفة في صخورها بالإضافة إلى المعادن الأخرى. هذا التشابه يجعل من احتمال وجود كواكب أخرى ذات تكوين مطابق لتكوين الأرض في بدايات عمر المجموعة الشمسية وارداً وجديّاً، وبالتالي يمكن أن يكون الكوكب الصادم الآخر قد تشكل على مسافة قريبة من الأرض وبتركيبة مشابهة واصطدم بها لاحقاً ليتشكل القمر من تبعات هذا التصادم بخصائص ومكونات من الكوكبين المتشابهين.
تتوزع معظم الأقمار في المجموعة الشمسية حول الكواكب الغازية البعيدة عن الشمس، أما القمر الأرضي فهو الأكبر بين أقمار الكواكب الصخرية القريبة، والتي تنحصر في قمرين صغيرين يدوران حول كوكب المريخ. ويعتقد أن أصل هذين الكوكبين يختلف بشكل كبير عن أصل القمر، إذ أن حجمهما وتكوينهما يدلّ على أنّها نيازك التقطتها جاذبية المريخ إثر اقترابهما منه، وظلّت تدور في حقله الجاذبي حتى اليوم. لذلك لا يمكن دراسة تكوّن القمر بالمقارنة مع أقمار الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية نتيجة اختلاف الظروف والأسباب.
عليه، توجد عملياً نظريتان علميتان ممكنتان لتفسير أصل نشوء القمر بتركيبة مطابقة للأرض، وهو أنه تكون من تصادمها مع كوكب آخر مشابهٍ لها، أو نتيجة عشرات التصادمات مع أجرام فضائية صغيرة مما شكّل نواة لعدة أقمار صغيرة اندمجت في قمرنا الحالي كما نعرفه اليوم على مدى مئات ملايين السنين.