«بالنسبة لشومبيتر، فإن البورجوازية تصبح عاجزة سياسياً من دون القيادة التي تمنحها لها بقايا الفئات العليا من الإقطاعية»جون بيلامي فوستر

استمرت في الأسابيع الماضية الحملات الأيديولوجية لمنع حتى إعادة التفكير برفع معدلات الضرائب على المصارف والشركات الكبرى والفوائد، بالإضافة الى وضع ضريبة جديدة على الربح العقاري.

وكان آخر الغيث في هذا الإطار، القرار ــ المهزلة لهيئة التشريع في وزارة العدل، والتي في سرعة فائقة اتخذت قرارها بعدم قانونية وضع ضريبة استثنائية على أرباح المصارف الاستثنائية وهي الأرباح التي وصلت الى حد 5.6 مليارات دولار كهبة من المصرف المركزي (أي من الشعب اللبناني الدافع الأكبر للضرائب) الى المصارف في ما سمّي زوراً "هندسة مالية".
بالإضافة الى هذا القرار، لا تزال الذرائع التي تساق ضد هذه الضرائب لا تعدّ ولا تحصى، بدءاً باللجوء السوري، وصولاً الى الاقتصاد الحر، وعلى رأسها أن هذه الضرائب ستصيب القطاعات الاقتصادية التي تشكل النجاحات التي تمثلها الرأسمالية اللبنانية. صحيحة هذه "النجاحات"، إلا أنها أتت في خضم بحر من التراجع الاقتصادي على الصعد كافة. فالمصارف التي حققت أرباحاً طائلة في "بونانزا" التسعينيات وحوالى العقد في القرن الواحد والعشرين، والقطاع العقاري الذي حقق أرباحاً كبيرة في فترة ما بعد 2006 حتى 2011، كانا القطاعين اللذين استفادا من البنى والسياسات الاقتصادية اللتين تكونتا بعد 1992. بالإضافة الى هذا، فما لا يقال أيضاً، أنه في نفس الفترات التي حققت فيها هذه القطاعات "نجاحاتها"، اعتملت وتراكمت تشوهات كامنة في الاقتصاد اللبناني كانت ظاهرة للبعض في حينها، واختار البعض إما تجاهلها لتماهي مصالحهم مع الرأسمال المالي أو الريعي وإما لعمى وكسل نظري متأثرين بشكل تنويمي بالشعارات والضوضاء الأيديولوجية للحكومات المتعاقبة والمصارف وسائر اقتصاديي النموذج الاقتصادي القديم.
أما الآن، فأصبح من الواضح، أو يجب أن يكون كذلك، أن ليس كل شيء على ما يرام وأن الاقتصاد اللبناني يعاني من فشل بنيوي يتمثل لنا في الظواهر الآتية:
ارتفاع الدين العام الذي نتج من سياسة إعادة الإعمار التي خفضت الضرائب على الأغنياء وأنفقت على الاستهلاك ورفعت الفوائد على أدوات الدين العام؛ ارتفاع نسبة العمل اللانظامي وعدم مشاركة الإناث في العمل وانخفاض الأجور وعوائد الدخل الناتجة من العمل؛ الريادة أو المبادرة الفردية المدمرة؛ ارتفاع الدين الخاص الذي يلقي بعبئه على ميزانيات الأسر اللبنانية؛ انهيار البنى التحتية وارتفاع أكلاف الخدمات العامة؛ ارتفاع كبير في عدم المساواة؛ زيادة حصة القطاعات المتدنية الإنتاجية في الاقتصاد؛ تراجع العائد على التعليم وانتفاء العلاقة بين أي تطور تكنولوجي وعرض العمالة الماهرة؛ سيطرة الريع والقطاع المالي والمصرفيين على الاقتصاد وارتفاع العوائد على الرأسمال الخامل؛ استمرار العجز التجاري المزمن؛ قيام الاقتصاد المزدوج بين الداخل والخارج الى حيث تصدر العمالة الماهرة؛ انهيار البيئة والطبيعة واستغلال الرأسمال لها من أجل الربح؛ وأخيراً، دخول الاقتصاد في مرحلة ركود طويلة الأمد.

قرار هيئة التشريع الأخير هو أحد أشكال الخضوع
لمصالح الريعيين

في نفس الوقت الذي يدخل الاقتصاد اللبناني في حالة الفشل هذه، يستمر مسلسل تمظهر تحلل الدولة اللبنانية أو تحولها الى دولة فاشلة failed state، ولكن الأسوأ من ذلك أنها دولة فاشلة تضع نصب أعينها خدمة الرأسمال المالي والريعي. فقرار هيئة التشريع الأخير هو أحد أشكال هذا الخضوع لمصالح الريعيين والذي زاد الطين بلة أو كما يقال في الإنكليزية "أضاف الملح الى جرح اللبنانيين".
إن هذه هي عينة من الفشل العام للدولة في لبنان، فهي دولة، على الرغم من أنها تقبع في الحدود العليا للدول المتوسطة ــ العالية الدخل، حيث يبلغ معدل دخل الفرد 12,500 دولار، إلا أنها تعاني من انقطاع في الكهرباء يوازي الدول المدقعة الفقر ولا تستطيع تسليح الجيش إلا من هبات سعودية وأميركية أو "تبرع" من المصارف، ولا تستطيع أن تؤمن النقل العام الذي هو سمة الدول المتقدمة والعصرية، ولا تستطيع أن تكمل مشاريع أوتوسترادات ولا الجسور التي تقبع غير منتهية الى آجال غير معروفة... ولا... ولا... حتى لا نكمل. وكل هذا والثروة الخاصة تتركز لدى البعض في لائحة فوربس الذين يملكون ثروة توازي 20 بالمئة من الناتج المحلي ولدى الآلاف غيرهم، في أكثر نماذج تركز الثروة في العالم كما يبين تقرير الثروة العالمي الذي يصدره مصرف كريدي سويس وكما بينته إحصاءات المعهد العالمي لدراسات التنمية الاقتصادية في هلسنكي التابع لجامعة الأمم المتحدة.
ولكن بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة، فإنه لا يكفي أنه في جانب هناك ثروات خاصة هائلة ومعدل للدخل الوسطي للفرد مرتفع نسبياً، في مقابل اهتراء القطاع العام والدولة وخدماتها والناجم عن عدم وضع نظام ضريبي عال على مكامن الثروة والدخل العالي، ما يؤبد هكذا استقطاب ويخلق حلقة جهنمية من المداخيل المتدنية للدولة واهتراء متواصل لها؛ أنه لا يكفي، إذ إن الرأسمال يدفع الدولة الى تدعيم هذا الاستقطاب وتجذيره وتوسيعه.
خير مثال على كل ما تقدم، كان ما حدث في وزارة الشؤون الاجتماعية في اليومين الأخيرين حيث أوقف الوزير عقود مئات المتعاقدين في مشروع لإحصاء اللاجئين السوريين بسبب عدم رغبة الوزير في "تدفيع اللبنانيين الضرائب هباءً وأنه ملزم عقائدياً وقف المشروع"! عارضاً عليهم مساعدته في الذهاب الى غرف الصناعة والتجارة لإيجاد عمل لهم وتقديم سيرهم الذاتية! إنه مشهد سوريالي بالتأكيد لعملية تحطيم إرث فؤاد شهاب الذي بنى مؤسسات الدولة القوية الممتلئة بموظفين من ذوي الكفاءة العالية وملتزمين الخدمة العامة والصالح العام. إنه مشهد سوريالي لدولة ضعيفة أوقفت التوظيف النظامي خدمة للرأسمال المالي لأنها لا تريد فرض الضرائب عليه وتريد ضمان بقاء موارد الدولة الكافية لدفع فوائد الدين العام الى المصارف وحملة سندات الخزينة من الأثرياء والرأسماليين الماليين. وعندما أوقفت التوظيف الرسمي الطويل الأمد، أنشأت بذلك جيشاً من المياومين والمتعاقدين بالساعة بعشرات الآلاف أدى الى تدهور قيمة القطاع العام المادية والمعنوية، بينما يعيش هؤلاء في حياة هشة في ظروف قاهرة. أهذه هي رؤية الدولة لنفسها في نظام الطائف؟ وهل هكذا تقوم السياسة العامة (public policy) في زمن هذا النظام الذي يعطي الوزراء حق التصرف هكذا وحق الفيتو وإلى آخره من الحقوق الذي جعل الطائف يحطم الجيد في نظام المارونية السياسية ويعزز السيئ فيه.
الجانب المضيء من كل هذا أنهم بتصرفهم الواضح يسقطون الغلافات الإقطاعية التي كان الرأسمال يحكم فيها لبنان من خلالها في فترة ما قبل الطائف. فنحن لسنا بحاجة بعد اليوم إلى فك أحاجي الرأسمالية اللبنانية كما فعل الاقتصادي ها جو شانغ في كتابه "23 شيئاً لا يخبرونك بها عن الرأسمالية" ولا حتى نحن بحاجة الى استعمال تجارب آينشتاين الذهنية أو الـ gedanken experiments حتى نفهم الرأسمالية اللبنانية وأشياءها وأزمتها، فالأمور واضحة وضوح الشمس. لكن التحدي الكبير يبقى أن نحول هذا الوضوح العلمي والتجربة اليومية للبنانيين الى فعل سياسي لأنه بسقوط القناع الإقطاعي (الطائفي في لبنان)، كما قال الاقتصادي النمسوي جوزيف شومبيتر، تفقد الرأسمالية أهم أسلحتها وتبدأ تعيش فعلياً آخر أيامها.