في مكان ما، في الأوّل مِن أيّار، سيكون هنالك لقاء نقابي (ما) للاحتفال بيوم العمّال. ستكون هنالك طاولة عليها حلويّات (كاتو وبيتي فور وما شاكل). هذه الطيّبات ستكون آتية مِن محلّ شهير، عبّاس أحد العاملين فيه، والأخير قد استيقظ باكراً، جدّاً، للعمل في تحضير طلبيّات المحتلفين بيوم العمّال. هذا ما انتهى إليه، في أيامنا، ما يُسمى "عيد العمّال".
عيد! ليس تزييف الدلالة اللفظيّة لهذا اليوم إلا أحد أساليب تمييع المعنى. رأس المال قادر على احتواء كلّ شيء. عبّاس شخص حقيقي، يعمل أكثر مِن عشر ساعات في اليوم، بلا ضمان اجتماعي، يعيش في ضاحية لبيروت، وهو ليس أحمقاً كفاية ليذهب إلى "المعنيين" لشكاية "ربّ عمله". سيَخسر. يُدرِك هذا جيّداً.
لِمَ الاحتفال بيوم العمّال؟ لقد أصبح فولوكلوراً بلا معنى. لِمَ العطلة الرسميّة فيه؟ وصل الهزل أن العلامات التجاريّة العالميّة تحتفل بهذا اليوم، وتروّج لسلعها، ومِنها تلك التي مات في معاملها مِن العمّال، في بنغلادش مثلاً، أكثر مِن مئتي عامل خلال خمس سنوات. هناك حيث أجر العامل أكثر قليلاً مِن عشر دولارات... شهريّاً. قديماً كانت صورة الجهد الأقصى، والأقسى، تأتي على شكل وجه قد تلوّن بالأسود: عمّال المناجم. هذه الصورة أصبحت مِن الماضي (على الرغم من أنها لا تزال موجودة). تمّ احتواؤها أيضاً.
مَن هم العمّال؟ "ربّ العمل" يقدّم نفسه أنه "عامل" أيضاً. ويريد أن يجعل من هذا اليوم يومه أيضاً! حتى العيد يريد أن يسلبه من عماله، وغالباً، يريدهم أن يعملوا في عيدهم. هكذا صار الكلّ "عمّالاً".
فكرة هذا اليوم، بدأت عالميّاً، قبل نحو قرنين وما تلا، في خضم نضالات حثيثة لتخفيض عدد ساعات عمل الأجراء. سُرِق المعنى لاحقاً وأصبح للكل عموماً. احتواء آخر. لم يَعد مناسبة لإثارة الضجيج بغية الحدّ مِن "عبوديّة الأجر". أصبح احتفاليّة بالعطلة والشواء والمرح (كما كُرّس في الثقافة الاستهلاكية في بعض الدول).
أسلافنا، إلى قريب، كانوا يفلحون الأرض، يزرعون ليأكلوا، يصطادون، في دورة عمل - حياة طبيعيّة. كان عملهم هو حياتهم. العائلة كلّها كانت تُشارك. لم تكن "المشاغل" تبعدهم عن بعضهم. لم يكن لديهم "عيد للعمّال". لم يكن هنالك "وظيفة". ولاحقاً، العبد كان يُدرك عبوديّته، لم تَكن مقنّعة، الواحد مِنهم لا يَظهر في كامل أناقته، متفلسفاً وداعياً الناس إلى الحريّة، كحريّته، فيما هو أعبد العبيد. هؤلاء الذين يغيبون عن عائلاتهم، عن أطفالهم، في وظيفة أولى وثانية وربّما ثالثة، لأنّ واحدة لا تكفي، أيّ أطفال - أزمات يَصنعون؟ هؤلاء الأطفال، بكلّ النقص الذي يكبر معهم، هم الذين يُصبحون (أصبحوا) الناس، أكثر الناس. هؤلاء نحن وهذا العالم، كما هو الآن، مِن حولنا. أحدهم كان فرحاً، قبل مدّة، عندما خصّصت المؤسسة التي يعمل لديها قاعة للرياضة. آلات رياضيّة، تحت سقف، يُمكن للموظّفين استخدامها في وقت الفرصة (نصف ساعة). ظنّ أنّ "ربّ العمل" يُحبّه كموظّف. لم يفهم أنّه يُريد له طول العمر، بعيداً عن الأمراض، لمزيد من الاستفادة مِن قوة عمله. لا مكان للنوايا الحسنة هنا. العواطف تعمل في مكان آخر. تلك "طفرات" خاصة. كتب أحد الموظّفين، الأجراء، في مقال (مجلّة المعرفة السعوديّة): "كلّما عدت مِن العمل متأخراً - لأنني أحد هؤلاء العبيد أيضاً - يقول لي ابني، بابا لا تذهب إلى المكتب مرّة أخرى. كلّما أتذكر كلماته وأنا في عملي أوقن أنني أغتال أجمل أيام عمري وعمره معاً".
لقد ترسّخ اغتراب العامل عن عمله في عالمنا. لم تعد تنفع الإضرابات. التظاهرات. الاعتصامات. كلّ شي طُوّر ما يُقابله للاحتواء. النقابات العمّاليّة نفسها سُرِقت. أصبح يحرّكها رأس المال. بات، مِن بعيد، يستخدمها لضرب العمّال أنفسهم، أو في معاركه الخاصّة مع منافسيه. في لبنان لدينا نماذج فاقعة مِن هذا النوع. هذا شكل العالم الجديد، فليس حكراً على مكان دون آخر، إنّما الفارق نسبي فقط. في مرحلة الصراع ضدّ العبوديّة الظاهرة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، كان "الأسياد" يبتزون عبيدهم الذي يُريدون الانتقال إلى العمل بأجرة، فيقولون لهم: "ما زلتم عبيداً، إنّما أصبح لكم الحقّ في اختيار سيّدكم". لا بدّ من اختيار أحدهم (ربّ العمل) للعمل عنده، وإلا فالبديل هو التشرّد ومواجهة الموت جوعاً. كان نمط حياة الأسلاف، مع الأرض، قد أصبح مستحيلاً. لقد حلّ "روح العصر". لا بديل.