في معرض شرحه لمشروع الموازنة العامّة، في آذار الماضي، قال وزير المال، علي حسن خليل، إن المشروع لم يتضمن أي ضريبة تطال "الطبقات الفقيرة أو ذوي الدخل المحدود"، بل تضمّن إجراءات تهدف الى "تخفيف الأعباء" و"أن تتحوّل الدولة الى دولة راعية معنية بهموم الناس"...
ومن هذه الإجراءات، التي أشار إليها خليل، المادة 56 من مشروع الموازنة، الرامية الى السماح للشركات بإجراء إعادة تقييم استثنائية لأصولها الثابتة، وتخفيض الضريبة المفروضة على هذه العملية المربحة جداً من 10% إلى 5%!
لم يكلّف وزير المال نفسه عناء الشرح: كيف تتحول الدولة الى دولة راعية معنية بهموم الناس من خلال إعفاء الشركات والمصارف من ضرائب متوجبة عليها تقدّر بمئات ملايين الدولارات؟
بحسب المادة 45 من قانون ضريبة الدخل، يحق للمكلفين على طريقة الربح الحقيقي إعادة تخمين أصولهم الثابتة كل 5 سنوات، وفق الأصول المذكورة في قانون التجارة، ويعتبر الربح الناتج من هذه العملية كـ"ربح تحسين"، ويخضع لمعدّل ضريبة 10% من قيمة هذا الربح، وتسدد الضريبة ضمن التصريح السنوي لضريبة الدخل، وتُفرض غرامة بنسبة 5% من قيمة الضريبة المتوجبة، كل شهر تأخير إذا لم يقدّم المكلف هذا التصريح، بالإضافة الى غرامة تحصيل بنسبة 1% من الضريبة المتوجبة غير المسددة اعتباراً من تاريخ انتهاء مهلة الدفع الأساسية. يعفى ربح التحسين من ضريبة الدخل إذا بقي مستقلاً في حساب خاص في كل من جانبي الأصول والخصوم (أي لا يدخل في صلب قيمة الأصل ولا يمكن استهلاكه)، أو إذا استعمل لتغطية خسائر لا تزال ظاهرة في الميزانية، أو في حال إعادة توظيف هذه الأرباح في التجهيزات الصناعية وإنشاء مساكن لإيواء العمال (...)

تتذرع الأسباب الموجبة بالتضخم النقدي، علماً بأن سعر صرف الليرة ثابت منذ عام 1993


هذا ما ينص عليه القانون، وهو ما تتقاعس وزارة المال عن تطبيقه في سياق آليات التهرب الضريبي، وبدلاً من معاقبة المخالفين، جرى دسّ المادة 56 في مشروع موازنة عام 2017 بهدف مكافأتهم، ليس عبر إلغاء الغرامات الباهظة فقط، بل أيضاً تخفيض معدّل الضريبة نفسه الى النصف من دون أي تبرير أو أسباب موجبة، سوى بضع كلمات إنشائية لا تعني شيئاً بالفعل.
تنص المادة 56 المقترحة تحت عنوان "إعادة إجراء تقييم استثنائية للأصول الثابتة" على ما يأتي:
"يجوز للأشخاص الحقيقيين والمعنويين الملزمين بمسك محاسبة منتظمة عملاً بنصوص قانونية أو تنظيمية، باستثناء الشركات العقارية، ولمرة واحدة، وضمن مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون، إجراء إعادة تقييم استثنائية لعناصر الأصول الثابتة (بما فيها الأسهم وسندات الدين وسندات وحصص المشاركة والعقارات والموجودات الثابتة الأخرى) لتصحيح آثار التضخم النقدي الناتج من التغيير في قيم تلك الأصول.
تتناول عملية إعادة التقييم جميع الأصول المشار إليها في الفقرة السابقة والمُدرجة في قيود المؤسسة بتاريخ سابق لأول كانون الثاني من سنة 2016، وشرط أن لا تزيد قيمة الأصول المعاد تقييمها عن سعر السوق بتاريخ 31/12/2015.
تجري عملية إعادة التقييم بواسطة أحد مكاتب المحاسبة أو خبير معتمد لدى المحاكم أو أكثر يختاره صاحب العلاقة.
تخضع الفروقات الإيجابية الناتجة من عملية إعادة التقييم لضريبة نسبية جديدة معدلها 5% (خمسة بالمئة) من قيمة هذه الفروقات (...)
يستفيد من إعادة التقييم المبينة في هذه المادة، المكلفون على أساس الربح المقطوع أو المقدّر، إذا ثبت وجود مستندات تسمح بإعادة تقييم عناصر الأصول الثابتة (...)
لا يستفيد من أحكام هذه المادة، المكلفون الذين يتمتعون بإعفاءات أو استثناءات من ضريبة الدخل على الأرباح أو سبق لهم أن تمتعوا بهذه الإعفاءات أو الاستثناءات حتى ولو انقضت مدتها قبل صدور هذا القانون".
اقتصرت الأسباب الموجبة لهذه المادة على كلام عام مبهم جاء فيه: "نظراً للتضخم النقدي الناتج عن التغيير في قيم العقارات والموجودات الثابتة، وحيث إن معدل الضريبة على ربح التحسين رفع الى 15%، ومن أجل إتاحة الفرصة للمكلفين لتصحيح قيودهم المحاسبية وإظهار موجوداتهم الثابتة وفقاً لقيمتها الرائجة، ونظراً لما توفره إعادة التقييم من إيرادات فورية، جاء هذا الاقتراح".
ينطوي هذا الكلام الوارد كأسباب موجبة لإعفاء الشركات والمصارف من الضريبة على نوع من التزوير. أولاً، إن معدّل الضريبة على ربح التحسين لا يزال 10% ولم يُرفع الى 15%، بل هناك اقتراح برفعه لم يصدر بقانون بعد وقد لا يصدر. ثانياً، إن ضريبة التحسين هي ضريبة مباشرة تفرض على الزيادة في قيمة العقارات والأسهم والسندات والأصول الثابتة الأخرى التي تمتلكها الشركة ضمن موجوداتها، وبالتالي فإن ارتفاع أسعار هذه الأصول يرفع من قيمة الموجودات التي يملكها المساهمون وأصحاب الشركات والمصارف، ما يزيد من ثرواتهم. فكيف يمكن الاعتداد بزيادة الموجودات (الثروة) كسبب لتخفيض الضريبة. إن الإشارة الى التضخم النقدي في هذا السياق هي إشارة خادعة، توحي بأن الشركات والمصارف تواجه تآكلاً في قيمة أصولها الثابتة بسبب هذا التضخم، في حين أن العكس هو الصحيح.
تُعرّف الأصول الثابتة على أنها الأصول التي تقتنيها الشركة لاستخدامها في نشاطها، أي التي تحقق من خلالها الأرباح. وقد سبق أن حظيت الشركات بفرصة إجراء إعادة تقييم استثنائية لأصولها الثابتة، وفقاً للقانون الرقم 282 تاريخ 30/12/1993 المعدل وفقاً للقانون الرقم 301 تاريخ 20/3/1995، والتي بقيت سارية حتى أعمال عام 2007، وشملت الأسهم وسندات الدين وحصص الشركات والعقارات والموجودات الثابتة، سواء كانت أصولاً ثابتة أو موضوع متاجرة، والمدرجة في قيود الشركات بتاريخ سابق لأول كانون الثاني 1994، وخضعت الفروقات الإيجابية الناتجة من عملية إعادة التقييم لضريبة نسبية لم تتجاوز 1.5%. وكانت الحجّة يومها (1993) تصحيح آثار التضخم النقدي الناتج من تدني سعر صرف الليرة تجاه العملات الأجنبية، اللاحق بالشركات ابتداءً من أعمال 1975.

قيمة الموجودات سترتفع من دون تسديد أي ضريبة
على الربح المحقق


بالفعل، عاش لبنان بين النصف الثاني من الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات موجات متتالية من انهيار سعر صرف الليرة، وبالتالي أثر ذلك بقوّة على أصول الشركات، ولكن منذ عام 1993 جرى تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار، وليس معروفاً أن سعر الصرف تدنّى كي يجري طرح إعادة تقييم استثنائية للأصول الثابتة اليوم. فالمعروف أن الشركات والمصارف استحوذت على كميات ضخمة من العقارات وسندات الدين والأسهم على مدى ربع القرن الماضي، بأسعار أدنى بكثير من أسعارها الرائجة حالياً، وبالتالي اختار قسم كبير من الشركات عدم إجراء إعادة تقييم لهذه الأسعار تهرباً من تسديد الضريبة، وبدأت الضغوط منذ مدّة طويلة لإقرار تعديل قانوني يعفي الشركات من هذه الضريبة أو جزء مهم منها لتعظيم الأرباح، ولا سيما أن أسعار هذه الأصول، ولا سيما العقارية، شهدت ارتفاعات كبيرة في العقد الأخير، ما وفّر لأصحاب الشركات والمصارف والمساهمين فيها فرصة ذهبية لزيادة قيمة ثرواتهم، من دون تأدية ضريبة عليها.
طُرح تخفيض الضريبة على عملية التقييم الاستثنائية في إطار مشروع موازنة عام 2010، في حكومة الرئيس سعد الحريري، إلا أن معارضة وزراء التيار الوطني الحر وحزب الله أسقطت هذا الطرح، ليطل مجدداً في مشروع موازنة عام 2012، في ظل حكومة نجيب ميقاتي، ويسقط مجدداً، ولم تنفع حينها كل الطروحات العقلانية، التي اعتبرت أن تخفيض هذه الضريبة يجب أن يقتصر على المؤسسات الإنتاجية (كالمصانع مثلاً) من دون المصارف والشركات الأخرى.
(الأخبار)