تتألف الإدارة الكنسية عموماً من جهازين: البطريركيات والرهبانيات؛ ولكل منها هيكليتها العامة. في البطريركيات لا تختلف الأوضاع كثيراً عمّا هي عليه في الأحزاب والإدارات العامة لناحية الترهّل والصراع على الكراسي والمحسوبيات... أما في الرهبانيات فتجري انتخابات دورية ويمكن الحديث عن تداول هادئ للسلطة ومراعاة الحد الأدنى من الكفاءة في توزيع المسؤوليات، وثمة محاسب ومدقق مالي أقله، كذلك تراكم مؤسسات الرهبانيات التربوية والاستشفائية الأرباح.
ورغم مظاهر البذخ التي يقول الحريصون على الكنيسة إنها لا تليق بمن اختار الحياة الرهبانية التي تقوم على التقشف، فإن وضع الرهبانيات أفضل بما لا يقاس من وضع البطريركيات حيث تستشري الخلافات والمشاكل وتراشق الاتهامات على مختلف المستويات؛ فالورشة التي كان يفترض بالفاتيكان أن يرعاها غداة استقالة البطريرك الماروني نصرالله صفير وانتخاب البطريرك بشارة الراعي خلفاً له، توقفت إثر اكتشاف الكرسي الرسولي أن المكلفين بالملف لا يطلبون النياشين البابوية لغير رجال الأعمال وتجار الدخان والسلاح. ولا شك في أن تدقيق الفاتيكان في لوائح المرشحين لتولّي المسؤوليات أسهم في اقتناعه بأن ثمة جيلاً كاملاً يصعب الاتكال عليه لإحداث أي تغيير وإصلاح، فانكفأ أكثر فأكثر.
وهكذا تأخرت دعوة السينودس الكاثوليكي لانتخاب بطريرك جديد أكثر من 5 سنوات، حيث صدر أمس فقط بيان من بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك أكدت فيه انعقاد المجمع من 19 حزيران إلى 23 في مقر البطريركية الصيفي في لبنان في عين تريز، لانتخاب بطريرك جديد. وكان البطريرك غريغوريوس الثالث لحام قد تقدم باستقالته نتيجة تفاقم الضغوطات عليه، لكنه حدد موعداً لها بعد بضعة أشهر لتصادف عيد ميلاده الخامس والثمانين، إلا أن الفاتيكان قرأ الجزء المتعلق بالاستقالة وتجاهل الجزء المرتبط بموعدها، وأذاع قبوله استقالة لحام وتعيين قائم بالأعمال إلى حين انتخاب بطريرك جديد.

الخروج من الأزمة يتطلب انتخاب بطريرك غير مرتبط بالمشكلات التي أنهكت الكنيسة

وهو أمر يمثل في نظر لحام والمطارنة المقرّبين منه إهانة كبيرة لهم، وتبنّياً فاتيكانياً لخصومهم، لكنهم لا يحمّلون مسؤوليتها البتة للكرسي الرسولي، بل لمجموعة المطارنة التي أوجعت رأس الفاتيكانيين بـ«افتراءاتها» على لحام. وفي النتيجة، فإن أمام المطارنة في هذه الكنيسة شهراً حافلاً بالتحضيرات. وتشير المعلومات الأولية إلى أن الصراع ينحصر اليوم بين مطرانين رئيسيين: المطران جان جنبرت، متروبوليت حلب وسلوقية وقورش، والنائب البطريركي في دمشق المطران جوزف عبسي. والمشكلة في هذا التنافس الانتخابي أن المطارنة المقربين من البطريرك المستقيل يعتقدون أن زملاءهم المناوئين لهم فبركوا ملف فساد وعمدوا إلى تشويه صورة البطريرك، من دون إجراء أي تحقيق جدي أو إثبات اتهاماتهم، وهم يتهمون البطريرك لحام ببيع الأراضي، من دون إثباتات على ذلك، فيما هناك ملفات موثقة بحقهم أكثر دسامة بكثير تتضمن إنشاء جمعيات وهمية وبيع شقق وهمية. وبعيداً عن التفاصيل الفضائحية والجنسية لما يعيّر المتخاصمون بعضهم بعضاً فيه، يكفي القول هنا إن التراشق بات شخصياً ومباشراً.
والخطير في الموضوع أن الصراع يتخذ في بعض وجوهه طابع «البولسيّ» ــ «الشويريّ»، نسبة إلى الجمعية البولسية والرهبانية الباسيلية الشويرية. وفي ظل وجود أكثر من خمسة مطارنة متقاعدين، وأكثر من 10 مطارنة متقدمين في العمر، وعصف مشاكل كثيرة بين أعضاء المجمع، يصعب توقّع النتائج مسبقاً، كذلك يصعب تخيّل ما يمكن أن يحدث في حال طلب مطران واحد الكلام وتطرق إلى أحد الملفات الحساسة؛ فمشاكل المطارنة كثيرة في ما بينهم، وبينهم وبين بعض رعاياهم ومعظم الآباء الخاضعين لسلطتهم. ويكفي أن يتحدث أحد الآباء المبعدين الذين يسعفون الجرحى على أطراف حلب ليُكشف الكثير. والواضح في هذا السياق أن لا أحد من أعضاء المجمع الانتخابي لديه القدرة أو حتى الرغبة في استنهاض كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك ممّا هي فيه واعتماد مبدأ الجمع بدل التفرقة وإعادة الروح إلى الأبرشيات وإيقاف النزيف المالي والثرثرات وتفلت بعض رجال الدين من كل القيود. وعليه يمكن القول إن الفاتيكان حوّل المجمع الكاثوليكي المقبل إلى مجمع انتخابي، وتكرس أمس في البيان البطريركي تجميد عمل البطريركية بانتظار انتخاب بطريرك جديد، لكن الأكيد أن البطريرك الجديد غير موجود داخل المجمع، ولا بدّ بحسب قول المطلعين من تكرار السابقتين الماضيتين بالإتيان براهب من خارج الأزمة الحالية، شرط أن يكون لديه المعرفة الكافية بما يحصل، والثقافة اللازمة والرغبة في رؤية كنيسته تقف على قدميها مجدداً.