ان تأييد التيار الوطني الحر وكتلة الإصلاح والتغيير والاعتقاد بأن بعض قياداته ووزرائه ونوابه تعرضوا للظلم من خلال حملات إعلامية واتهامات وجّهها سياسيون باختلاس وهدر أموال الدولة في ملف «بواخر الكهرباء»، لا يعني التساهل مع أي تجاوز لمعايير العدالة المنصفة. فلا يجوز أن تصدر احكام مسبقة عن وزير العدل وبحضور رئيس مجلس القضاء الأعلى بشأن الشكوى القضائية التي تقدم بها وزراء ونواب التيار بحق من اتهمهم بارتكاب جرائم.
الوزير سليم جريصاتي قال حرفياً أول من أمس ان «الشكوى الاولى بحق اعلاميين وغير اعلاميين ونواب ووزير سابق ساقوا اتهامات بموضوع المحطات العائمة وهذه الاتهامات ثبت زيفها، واحد، بتصريح من «اني» (اسم الشركة) نفسها عمم على الاعلام، وبتصريح من السفير الايطالي ومن ثم وأخيراً بتصريح من وزير الخارجية الايطالي الذي قال بالفم الملآن أن هذه الاتهامات باطلة ولم يصدر يوماً موقف من «اني» عن أي عمولة طلبها أحدنا أو أحدهم عن أي عمولة بموضوع «اني»، وهي اليوم من الشركات التي تم اعتمادها في وزارة الطاقة بموضوع الاستكشاف والتنقيب».

قبل البحث في عمق الموضوع لا بد من الإشارة الى الملاحظات الآتية:
اولاً في الشكل، ان اجتماع الجهة المدعية بوزير العدل بحضور قضاة في مكتبه أمام وسائل الاعلام للإعلان عن الشكوى من دون وجود محام أو ممثل عن الطرف المدعى عليه قد يعد انحيازاً واضحاً لجهة على حساب أخرى. وربما كان من الأفضل ألا يتدخل وزير العدل لجهة استخدام صلاحياته تحريك النيابات العامة في هذه القضية لأنه ينتمي الى التكتل السياسي نفسه الذي ينتمي اليه أحد الطرفين.
ثانياً، ان قول وزير العدل ان الاتهامات التي سيقت بحق الجهة المدعية «ثبت» انها غير صحيحة يستبق التحقيقات القضائية التي يفترض أن تجري بإشراف قاض مستقل. ويمكن لأي من طرفي القضية طلب تنحي القاضي عن النظر في القضية اذا تبيّن انحيازه المسبق لأحدهما. ويُتاح لفريق الدفاع التشكيك بصدقية المعلومات المذكورة بينما تعود صلاحية الحسم في هذا الموضوع الى قضاة المحكمة.

اجتماع الجهة المدعية بوزير العدل بحضور قضاة في مكتبه قد يعد انحيازاً واضحاً


ثالثاً، ان قول الوزير ان الاتهامات ثبت أنها «مزيفة» لا يعني ابراء الجهة المتهمة بواسطتها فحسب، بل يعاقب الجهة التي أطلقت تلك الاتهامات من خلال الحسم بأنها مفترية، وذلك قبل انطلاق التحقيق القضائي. ان معايير العدالة لا تمنح وزير العدل أو حتى رئيس مجلس القضاء الأعلى (كان جالساً الى جانب الوزير اثناء استقبال المدعين في وزارة العدل أول من أمس) صلاحية الحسم في هذه القضية.
رابعاً، نفي وزير العدل «أي عمولة طلبها أحدنا أو أحدهم» يدل الى أكثر من انحياز الى أحد الطرفين. إذ ان هذا الكلام بصيغته الواردة (استخدام الضمير المتكلم الجماعي) قد يدل الى أن الوزير يعد نفسه طرفاً في القضية بحكم عضويته في التكتل السياسي الذي ينتمي اليه المدعون.
خامساً، ان سرد الوزير لمعلومات وأقوال وتصريحات تعود لجهات دولية وتجارية وسياسية للتأكيد على «زيف الاتهامات» قد يعد مجرّد تعبير عن رأي غير ملزم لأحد، لكن بعض العناصر تدل الى ان كلام الوزير يستحق التوقف عنده لأنه يتجاوز اطار التعبير عن الرأي وقد يشكل ضغطاً على القضاة الذين احيلت اليهم القضية، وهي:
ــــ تصريح الوزير عبر وسائل الإعلام بشأن هذه القضية من مكتبه في وزارة العدل بحضور الجهات المدعية الى جانبه،
ــــ حضور رئيس مجلس القضاء الأعلى وانتشار صور له عبر الاعلام مع الجهات المدعية في مكتب الوزير،
ــــ لا بد من التذكير بأن التشكيلات القضائية هي من مسؤوليات مجلس القضاء الأعلى الذي يحيلها الى وزير العدل ويعرضها الوزير بعد ذلك على مجلس الوزراء لإقرارها.
ان «قرار تكتل التغيير والاصلاح الاحتكام الى القضاء عند التجريح» قد يدل الى رغبة قيادته بمعالجة الموضوع بعدل وانصاف والتخفيف من التراشق الإعلامي بين الأطراف السياسية. علماً أن القضاء وحده هو من يحسم اذا حصل فعلاً تجريح أو اذا كان الامر يستند الى معلومات مغلوطة أو كاذبة.
في زمن تتكاثر فيه الصراعات والخلافات والصدامات السياسية وتتعدد فيه الاتهامات والاتهامات المضادة بالنهب والفساد والهدر وتجميع الثروات بطرق غير مشروعة لا بد من حكم. ولا بد للحكم ان يكون مستقلاً ولا بد لجميع القوى ووسائل الاعلام تجنب كل ما يمكن ان يشكل ضغطاً على الحَكَم.