"نحن بشكل متزايد نعيش على حبوب الذرة من الحصادات السابقة"ألان غرينسبان

في مقدمة كتاب الحاكم السابق للاحتياطي الفيدرالي الأميركي ألان غرينسبان الصادر في 2013 بعنوان "الخريطة والإقليم"، يقول غرينسبان إنه بدأ كتابته بعد أزمة 2008 بعد أن تأكد له أنه "كلنا أخطأنا ومن أجل أن نتعلم من حقيقة أننا أخطأنا".

لكنه وبسبب التزامه بالفكر الاقتصادي الليبرالي المتطرف، فإنه لم يرَ في الأخطاء إلا عدم احتساب الاقتصاديين للطريقة المثلى لاستشراف المستقبل أو في فهمهم للطبيعة الإنسانية وتأثيرها على الأسواق المالية وفي طرق احتساب المخاطر، فكان العنوان الثانوي للكتاب "المخاطر، الطبيعة الإنسانية ومستقبل الاستشراف". ولكنه يقول أيضاً في الكتاب "إن التخطيط المركزي فشل، ولكنني أشك بقوة، وبسبب النواقص في الطبيعة الإنسانية، في أن الاستقرار الكامل يمكن تحقيقه في الاقتصاد الرأسمالي". طبعاً هذه الاعترافات تعتبر تقدماً على ما كان كهنة النيوليبرالية يوعظون العالم به بعد عام 1991 بتفوق الأسواق الحرة، حتى المالية منها، واستقرارها وقدرتها على تحقيق النمو الاقتصادي المضطرد والمستدام، الذي يترافق مع ارتفاع دخل وثروة الجميع في المجتمع وحصول كل إنسان على المكافأة المتساوية مع إنتاجيته، بالإضافة إلى التساقط من الأعلى للأسفل لثمار الأسواق (trickle down) وإلى ما هنالك في قصة الخيال (fairytale) الرأسمالية.
في كتاب غرينسبان محاولة للإجابة على بعض هذه التحديات في ما يمكن توصيفه بأنه استفاقة حصلت له بعد الأزمة، وهي الأزمة التي كان هو نفسه مسؤولاً عنها بسبب سياساته المؤيدة للأسواق المالية في فترة ولايته، التي استمرت من 1987 إلى 2006.

يعيش اللبنانيون من حصاد
غيرهم أو من بيع أراضيهم
أو من تهجير أبنائهم

لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أن الكتاب رائع لما فيه من مقدرة فكرية هائلة وتجربة كبرى، ويمكن أن يشكل بحد ذاته "خريطة" لتقييم عمل أي اقتصاد وليس فقط الاقتصاد الأميركي. وهنا سأعيد الاستشهاد ببعض من أقواله في سياق تحليل سياسة مصرف لبنان منذ عام 1993، لنرى (في هذا الجزء) مدى توافقها مع نظرة غرينسبان لسبل خلق الثروة وتحسين مستوى المعيشة في الراسمالية. يقول غرينسبان:
1. "إن الجانب المظلم من الرأسمالية هو أن الثروة تخلق فقط عندما يسمح للتكنولوجيات والمؤسسات المتخلفة أن تخبو ويتم استبدالها... إن الهدف النهائي للنظام المالي في اقتصاد السوق هو تصويب المدخرات الوطنية، وأي مدخرات تستقرض من الخارج (العجز في الميزان الجاري)، نحو الاستثمار في المصانع والآلات والرأسمال البشري التي تعطي أعلى العوائد على الرأسمال (بعد احتساب المخاطر)، وبالتالي أعلى الزيادات في الإنتاج الوطني لكل ساعة عمل... في الولايات المتحدة، إن نجاح النظام المالي في العقود الأخيرة للقرن العشرين في تصويب مدخراتنا الشحيحة نحو الراسمال الحقيقي المنتج قد يفسر العائد العالي الذي كان العملاء غير الماليين مستعدين لدفعه للمنتجين المحليين للخدمات المالية". وفي موضوع الاستثمار الحقيقي يقول: "إن الفجوة بين مستوى الإنتاج لكل ساعة المتجسد في الأصول الراسمالية الجديدة... والمستوى نفسه في المنشآت المنخفضة الإنتاجية، هي (أي الفجوة) التي تؤدي إلى... الزيادة في مستوى المعيشة". ويقول غرينسبان أيضاً إن من بين الإشارات التي توجه المدخرات هي إشارات سعر الصرف والفوائد وغيرها.
في ظلّ هذا التقديم، نستطيع أن نقيّم مرحلة ما بعد 1993 وحتى الآن في لبنان من ناحية الدور الذي لعبه النظام المالي. في بداية خطة إعادة الإعمار كان يؤمل أن كل 1 دولار استثمار حكومي سيقابله 3 دولارات استثمار من القطاع الخاص، وبالتالي كانت الآمال كبيرة بأن الاقتصاد اللبناني مدفوعا بالإنفاق الاستثماري الحكومي مع قطاع خاص يستثمر 3 مرات ما يستثمره القطاع العام، سيؤدي بلبنان إلى أن ينعم بعد عدة سنوات بمخزون راسمال عال من دون دين عام وتضخّم منخفض. لكن هذه الحسابات لم تكن متطابقة مع ما حصل. إذ تراجعت حصص القطاعات العالية الإنتاجية وسيطرت القطاعات المتدنية الإنتاجية على الاقتصاد اللبناني بحلول عام 2011 (تقرير البنك الدولي- مايلز في عام 2013). وتراجعت قدرة الاقتصاد على إنتاج الوظائف وعلى استعمال الراسمال البشري المنتج في الجامعات اللبنانية، فبلغت معدلات البطالة بين الشباب 35%، كما زادت البطالة المقنعة حيث يعمل الخريجون الجامعيون في وظائف لا تتلاءم مع مهاراتهم. وتراجعت قدرة الاقتصاد على التصدير للسلع واستبدلت بتصدير العمال والشباب. كما ارتفع الدين العام إلى أكثر من 140% اليوم، والأمر الوحيد الذي تم تحقيقه هو التضخم المنخفض. لماذا حصل كل هذا؟ إذا أردنا أن نقيسه نسبة لما قاله غرينسبان، فإن المتهم الحقيقي يجب أن يكون النظام المالي.
لقد عمل النظام المالي وعلى رأسه مصرف لبنان، بواسطة بنية الفوائد وتثبيت سعر الصرف وخفض التضخم، على توجيه الادخارات الوطنية (والسلبية عبر عجوزات الخزينة) والخارجية نحو تحقيق العائدات الكبيرة للراسمال المالي المستثمر في أدوات الدين العام من سندات خزينة وللمصارف (المقدمة المحلية للخدمات) ولأصحاب الأراضي والعقارات؛ وكل هذه "الاستثمارات" والقطاعات لم ولن تؤدي إلى الزيادة في الإنتاجية التي تكلم عنها غرينسبان. فلا هي تؤدي إلى التقدم التكنولوجي والابتكار ولا إلى تراكم الراسمال الحقيقي المتمثل بالمصانع والآلات ولا إلى استبدال القديم بالجديد، بل هي تجميد للادخارات في العقار غير المنتج وفي الرأسمال المالي الورقي الذي ينتج عوائد مستقاة من الضرائب على الأجيال الحالية والمستقبلية. وبالإضافة إلى كل هذا، وفي ظلّ عجوزات في الميزان الجاري، تتزايد الاستحقاقات التي هي في النهاية ديون أو أصول مملوكة من الخارج.
كل هذا التجميد، أو بالأحرى التحنيط للرأسمال، أذهل حتى البنك الدولي، أحد الكهنة العالين للرأسمالية العالمية، وصدر تقريره "كيف يستعمل الرأسمال المتدفق بشكل كبير من الخارج لتحقيق النمو المستدام في لبنان" الصادر عام 2012، حيث بيّن كيف أنه في ظلّ هذا التدفق الهائل (فاق نسبة للفرد مشروع مارشال الذي أعاد إعمار أوروبا الغربية) لم يستورد من الآلات سنوياً إلا ما معدله 0.7 بالمئة من الناتج المحلي بين 1997 و2009، وهي الآلات التي تُحدث "الفجوة" التي تكلّم عنها غرينسبان.
2. "إن درجة عدم المساواة في الدخل هي بالأساس تحدّد في المعركة بين قيم الأصول (الرأسمال) وبين مستويات الأجور لأكثرية القوى العاملة. إن تزايد عدم المساواة يمكن أن نراها كناتج للحصص من الناتج المحلي التي يقبض عليها العمال والرأسمال في الأسواق التنافسية". في لبنان، لقد كان تجميد الأجور للعمال منذ 1996 وحتى 2008 جزءاً من السياسة النقدية للمحافظة على استقرار النموذج المحول للمدخرات إلى الرأسمال المالي والعقاري. كما أن سياسات رفع الفوائد، واختراع الأدوات المالية مثل شهادات الإيداع من قِبل مصرف لبنان، وآخر البدع مثل "الهندسة المالية" الأخيرة تشير كيف أن البنك المركزي عمل في كل تلك الفترة على رفع قيم وعوائد الأصول المالية والعقارية من أجل ضمان فوزها في "المعركة" التي حرص أيضاً بتدخلاته على أن لا تجري على ملعب الأسواق التنافسية.
أخيرا، قال غرينسبان: "إن الراسمالية والاشتراكية لديهما طروحات محددة حول الشروط الضرورية لخلق الثروة ورفع مستويات المعيشة. أما الشعبوية فليس لديها أياً من هذا". إن الراسمالية اللبنانية برهنت على أنها في أفضل الأحوال "شعبوية يمينية" لا تخلق الثروة بل تعيد توزيعها، حتى بشكل أسوأ من أنها لو كانت فقط من الفقير إلى الغني، إذ أنها تأخذ من ما يمكن أن يكون عالي الإنتاجية والخالق للثروة من العمل وتعطي للخامل الريعي الخانق للثروة ومحنطها.
هكذا أصبح اللبنانيون اليوم يعيشون إما من حصاد غيرهم أو من بيع أراضيهم أو من رهن مستقبلهم أو من تهجير أبنائهم. وبالتالي علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التاريخي "ما العمل؟" حتى نحقّق الحصادات القادمة ونخلق الثروة ونرفع مستوى المعيشة. ولكن قبل ذلك، في القسم الثاني، سنرى الشبح الآخر الذي يخيم على ما بعد التجديد للحاكم ولكن هذه المرة من اليسار.