فوجئ كثيرون، بعد إقرار قانون الانتخاب في مجلس النواب، بمبادرة رئيس الجمهورية ميشال عون الى دعوة رؤساء الأحزاب والكيانات الممثلة في الحكومة الى لقاء في بعبدا اليوم.
وحار هؤلاء في تفسير هذه المبادرة، وهل هي مقدمة لطاولة حوار جديدة، أم خطوة تصالحية مع من اختلف الرئيس معهم، سواء في وجهات النظر، أو في وجود تعارض "كيميائي" معهم، أو في طريقة إدارة الحكم لجهة الاعتماد المفرط على المستشارين، أو تكليف الأصهار وزوجاتهم مهمات تتعارض والأصول والأعراف، أو لمحو آثار ترسبات المعركة الرئاسية وما رافقها من تحديات ومنازلات داخل "البيت الواحد»، أو من أجل كل هذه الأمور مجتمعة؟
إلا أن المراقبين بدقة والمتابعين لـ«المعركة الانتخابية» التي خاضها «التيار الوطني الحر» بقيادة رئيسه الوزير جبران باسيل ــ وكان بعض غلاة العونيين اعتبروا خطأ أنه مكلّف من الرئيس عون القيام بهذا الدور ــ يرون أن هذه المعركة خيّبت الآمال، والرئيس أولهم، جراء خروج باسيل عن «عقيدة عون» الداعية الى اعتماد النسبية في أي مشروع لقانون الانتخاب لأنها «الأكثر فاعلية» وتحقق التمثيل الصحيح، وتوفّر العدالة، كما تؤمّن المساواة بين اللبنانيين وتضمن المناصفة التي يشدد عليها المسيحيون.
وبدلاً من الانطلاق من النسبية العونية، والقتال بشراسة من أجل إقرارها في أسرع وقت ممكن، وربما بعد شهر أو شهرين من خطاب القسم، راح باسيل يمطر السياسيين بالمشروع تلو الآخر، مع علم الجميع أنها مستحيلة وبعيدة عن فكر عون العلماني، وآخرها التأهيلي الذي أيقظ وحوش الطائفية والمذهبية التي كانت نائمة. فوجد باسيل نفسه فجأة، ربما لانعدام الخبرة، وسط غابة من الذئاب المفترسة فهرب منها الى متاهة استحال عليه الخروج منها... وليلمح من بعيد طيف النائب جورج عدوان رافعاً راية النسبية العونية، وهو السياسي المدرّب، والمجرّب، والمحنّك، والتفاوضي المشهور بالمرونة والذي عرفناه أواخر ستينيات القرن الماضي يدخل مكتبنا في «النهار» ومسدسه في جنبه وقد جاء محتجاً على شعارنا «لا للنشاطات الحزبية في الجامعات»، وكان يومها شمعونياً. وبدل أن يشاجرنا ويهددنا، وضع مسدسه جانباً وتفاهمنا على أن لا حزبيات في الجامعات! ولا يزال تفاهمنا ساري المفعول الى الآن. وليس مصادفة أن يختاره الدكتور سمير جعجع نائباً له مطلق الصلاحية في «القوات اللبنانية».
الأعداء أنهكوا باسيل
وفوز «القوات» بالماراتون الانتخابي، وقد اعترف الجميع بذلك، لم يكن بفضل ذكاء عدوان ومرونته فحسب، بل بفضل إنهاك «الأعداء» الذين أوجدهم باسيل فعرقلوا كل مشاريعه، من الرئيس نبيه بري، الى النائب وليد جنبلاط، فإلى رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل، فرئيس «تيار المردة» النائب سليمان فرنجية، وصولاً الى الوزير الأمير طلال إرسلان الخ...
إن العماد ميشال عون ضابط كبير خاض حروباً ومعارك كثيرة، يعرف جيداً أن القائد الذي يفتح جبهات عدة ويوزّع قواته عليها، إنما يشتّت عسكره فيستحيل عليه الانتصار، لا بل يضمن لنفسه الخسارة والهزيمة!
وكنا قد حذّرنا مراراً وتكراراً، وبأسلوب أدبي لطيف استعنّا فيه بحكمة لويس كارول في «أليس في بلاد العجائب»، وفي «أليس عبر المرآة»، للفت الانتباه، من صديق قريب من التيار ورفيق نضال للعماد عون، الى خطورة تبديد الوقت على «مشاريع مؤذية للوحدة الوطنية» تحاول «بيع أوهام للمسيحيين»، فلم يستجب لنا أحد، بل إن البعض استغرب انتقادنا رئيس التيار وكأنه مثل امرأة قيصر!؟
وقد ناشدنا قيادة التيار الكف عن الحركات «البهلوانية» التي يقوم بها باسيل، والإصغاء الى الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي أحرجته مشاريع باسيل «الطائفية»، بضرورة التوقف عن إهدار الوقت في «لعبة جهنمية»، والعودة الى القاعدة العونية التي تقول بالنسبية قبل «خراب البيت».
لولا نصرالله...
وكان نصرالله قد اضطر الى رفع الصوت بعدما أدرك اقترابنا حقاً من حافة الهاوية، وخصوصاً بعدما حذّر الرئيس بري من خطر الوصول الى ٢٠ حزيران دون قانون جديد للانتخاب بعد رفض الجميع قانون الستين والفراغ، ما يدفع البلد الى المجهول وسط حريق هائل يضرب المنطقة بأسرها، وقد لا يسلم لبنان من شظاياه وشراراته.
وقد شاهد الرئيس عون من شرفة بعبدا المفرقعات والألعاب والأسهم النارية تنطلق احتفالاً بـ«النصر» ممن حققوا الفوز بالقانون الذي يعتز هو بأبوّته، وكان يتمنى لو أن تياره هو من كان يطلق المفرقعات، ويشرب الأنخاب، ويعقد المؤتمرات الصحافية، ويلقي الخطب احتفاءً بـ«إنجاز تاريخي» حققته «القوات» بدعم الرئيس ميشال عون، على ما قال الدكتور سمير جعجع في إفطار أقامته «القوات» مطلع الأسبوع في بيروت، في وقت لا يزال فيه باسيل يطلق وعوداً بتعديل القانون قبل الانتخابات، غير عابئ بما قاله الرئيس بري «إن ما كتب قد كتب».
خيبة مزدوجة لعون
وفي ظنّنا أن خيبة الرئيس عون مزدوجة، ولولاها لما دعا الى بعبدا من صنع الحداد بينه وبينهم، وفي مقدمهم الرئيس نبيه بري، والنائب سليمان فرنجية، إضافة الى النائب وليد جنبلاط حليف بري، وحتى جعجع الذي «كهرب» التيار العالي لوزرائه التفاهم مع التيار، قبل أن يخطف قانون الانتخاب!
وإذا اعتبرنا فشل التيار البرتقالي في قانون الانتخاب هو الخيبة الأولى، فإن الخيبة الثانية، وهي الأهم، تتمثّل بضياع ثمانية أشهر، الى الآن، من عمر العهد بفعل تبديد الوقت على القانون. وإذا استمر سيد العهد على موقفه بأن حكومته الأولى هي التي ستنبثق من الانتخابات النيابية المقبلة، والله وحده يعرف متى ستتألف بسبب الغموض الذي يكتنف صورة المجلس الجديد، إذ ذاك يكون العهد قد خسر ثلث ولايته قبل أن يبدأ!؟ وهذا وضع كارثي لا يقبله الرئيس العماد، فضلاً عن أنه يلقي بمسؤولية كبيرة على «حزب الله» باعتباره «حلّال المشاكل»، وهذا ليس في مصلحة العهد، علماً بأن ثمة من يعتبر السيد نصرالله «الآمر والناهي» في هذا العهد، جراء العثرات التي وقع ويقع فيها التيار البرتقالي.
وإننا نعتبر أن التيار مطالب بمراجعة سريعة للخطوات التي اتخذها في موضوع قانون الانتخاب، وليتحمّل كل معنيّ مسؤوليته، إذا كان التيار حريصاً حقاً على انتظام العمل المؤسساتي بداخله، في غياب العماد ميشال عون في رئاسة الجمهورية. ذلك أن تصويب البوصلة ضروري، بعملية شفافة ربما استدعت تغييرات في المواقع القيادية، الى جانب الخطط التي يجب أن يضعها ذوو الخبرة، والمعرفة، والتجارب. وإن مثل هذه المراجعة من شأنها أن تعزز ثقة الحزبيين والأنصار بالمؤسسة، ما يشكّل عاملاً مساعداً في التفاف المواطنين حول التيار ومرشحيه في الانتخابات التي دشن باسيل انطلاق ماكينتها أخيراً.
وكنا قد أشرنا في مقالنا الأخير في «الأخبار» (٢ حزيران) الى أن الفارس الهاوي يسقط بسهولة الى الوراء، بينما المدرَّب إذا سقط فإنه يسقط إلى الأمام، هذا ما قالته أليس وصحّ في باسيل وعدوان!
فهل من يقرأ، ويعتبر؟
* صحافي وباحث سياسي