تتجه أنظار السياسيين المهتمين في لبنان الى الخبَرين العراقي والسوري. ما يحدث في الدولتين يرخي بظلاله على الكلام السياسي الجدي في بيروت؛ فمحاولة صرف النظر محلياً عمّا يجري في العراق وسوريا ليس أمراً «صحياً» في بلد يعيش على الإيقاع الإقليمي، فيما تُدخله القوى السياسية في زواريب الانتخابات المؤجلة والتحالفات، والجلسة التشريعية، وطاولة الحوار الرئاسي الفارغة من مضمونها. استحقاق العراق بإعلانه القضاء على تنظيم «داعش» في الموصل، لا تنحصر تداعياته في بلاد ما بين النهرين، ولا يقتصر التعامل معه على كونه حدثاً منفصلاً عن المحيط، لأن تلازم المسارين العراقي والسوري بدأ يفرض نفسه على الأجندة الدولية، بعدما بدأ استحقاق آخر يدخل في شكل متواز على الخط، بالعودة الى المربع الاول السوري، أي الحديث عن مصير الرئيس السوري بشار الاسد.
فما بعد القضاء على «داعش» في العراق لا يشبه ما قبله سورياً، فيما تغلي الساحة السورية بأحداث متصاعدة عسكرياً وسياسياً، ويعود خلط الاوراق والاشتباك السياسي الدولي حولها.
السؤال اللبناني الجدي لا يزال يطرح عن مرحلة ما بعد القضاء على «داعش»؛ أين يمكن أن يتسرب كل هؤلاء العناصر الذين أخرجوا من المناطق الشاسعة؟ وأين يمكن أن يتجمّعوا؟ لأن تسليم السلاح مبكراً لم يظهر أنه من عادات «داعش»، كما هو واضح حتى الآن. وهذا يفترض أمرين؛ إما الخروج إفرادياً الى الدول المجاورة وما بعدها، وإما إعادة تجميع قواته في مناطق معينة صالحة استراتيجياً لإعادة الانطلاق مجدداً.

لبنان أمام مخاطر جدية لا تبدو أولوية لدى السلطة الغارقة في الاستعراض الانتخابي



وإذا كانت العمليات الإرهابية التي ضربت أوروبا أخيراً ناتجة من عمليات تبنّاها التنظيم الذي بدأ يفقد جغرافيا «دولة الخلافة» في الشرق الادنى وينطلق في عمليات هجومية في الغرب، كما كان أسلوب «القاعدة» سابقاً، فهذا لا يعني أن القضاء على التنظيم المذكور في الموصل والقصف الذي يتعرض له جوياً في سوريا، يعني انتهاء التنظيم فعلياً، ولو انتهت الحرب الدولية عليه بالمعنى العسكري الكبير. والنموذج الذي نتلمّسه في لبنان عبر تشكيل المجموعات التي تكشف تباعاً، وتوقيف أفرادها، يدل على أن الخطر من هذا التنظيم لا يزال داهماً في الخارج كما في لبنان، خصوصاً أنه يحتفظ ولا يزال بمساحة جغرافية حدودية يريد استثمارها أمنياً وعسكرياً في أكثر من اتجاه، إضافة الى استمرار قدرته على تجنيد أتباع له في أكثر من منطقة، والإعداد لأعمال إرهابية. من هنا، وبقدر ما يمكن الكلام غربياً عن نجاح الحملة على «داعش» في العراق، تنعكس الخشية من إمكان انفجار الحالة الارهابية، في ظل أسئلة تتداولها دوائر غربية معنية عن مرحلة ما بعد «داعش»، وهي الحالة نفسها التي أعقبت قبل سنوات الحملة الدولية على «القاعدة»، لا سيما أن الدول الاوروبية تحديداً تظهر كأنها تفقد المبادرة أمام الهجمة الارهابية عليها، وأمام الضغط الداخلي تجاه أسلوب تعاملها مع المصنفين مقرّبين من التنظيمات الاصولية. ويتزامن الكلام عن مرحلة ما بعد «داعش» مع هجمة غربية على «الإخوان المسلمين»، وسط تساؤلات أقرب الى المخاوف حول إمكان التقاء مصالح «الإخوان» مع «داعش» في عمليات جهادية.
وإذا كان عامل الارهاب يبقى أولوية لدى الاجهزة الامنية والاستخبارية بعد تطويق «داعش»، فإن إدارة ملف سوريا بعد هذا التطور الجغرافي والامني تتقدم في شكل مطّرد. لذا عاد الحديث عن مصير الرئيس السوري الى الواجهة، في انعطافة جديدة تتزامن مع هذا الكمّ من التشابكات العسكرية والسياسية دفعة واحدة. هناك من يرى أن كلام الرئيس الفرنسي الجديد ايمانويل ماكرون حول مصير الأسد، ولاحقاً وزير خارجيته جان ايف لودريان، بمثابة قبول غربي ببقاء الرئيس السوري وعدم التخلي عنه، تماماً كما حصل سابقاً مع المواقف الاميركية المتناقضة، والذهاب الى حل سلمي على أساس بقائه. لكن فرنسا في ظل إدارة جديدة شابة، تريد إثبات وجودها بسرعة على الساحة الدولية والاقليمية، لا تعبّر في شكل واضح عن الاتجاه الاوروبي والدولي العام، خصوصاً في ظل التحول الذي بدأ يتضح في مسار العلاقات الاميركية ــــ السعودية تجاه ملفات الشرق الاوسط. لذا يمكن الإضاءة على مصير الأسد كجزء متجدّد من الحديث الدولي عن الحل السلمي بعد شهور طويلة من عدم مقاربته، لانشغال الدول المعنية بمحاربة «داعش». ومع الكباش المتجدد بين واشنطن وروسيا وإيران حول سوريا، والتهديدات الاميركية الاخيرة على خلفية الملف الكيميائي، واقتراب موعد اجتماعات آستانا التي تعوّل عليها روسيا، والحديث عن احتمال توصلها الى اتفاق لوقف النار في سوريا، يعود التوتر الاقليمي حول سوريا الى نقطة حساسة، ويعود معه مصير النظام السوري الى الواجهة، ولو من دون تكهنات مسبقة ومبكرة حول سقوطه. لكن الأكيد أن سوريا بعد العراق ستكون في مقدم الحدث الاقليمي. وهنا الخشية اللبنانية المزدوجة، إن بالنسبة الى العمليات الارهابية أو تطورات سوريا، معطوفة على التهديدات الاسرائيلية، والضغط السعودي، ما يضع لبنان مجدداً أمام مخاطر جدية، لا تبدو أنها أولوية حالياً للسلطة السياسية الغارقة في الاستعراض الانتخابي.