من الظلم أن لا نقدّر موقف قوة اليونيفيل وامتناعها عن مجاراة الافتراء الإسرائيلي على لبنان. تصدّي القوة الدولية لرواية تل أبيب حول جمعية «أخضر بلا حدود» البيئية، بوصفها كما تقول إسرائيل أداة استخبارية لدى المقاومة، وكذلك المشادة الكلامية بين قائد اليونيفيل والضباط الإسرائيليين حول الوضع الميداني والاستقرار الأمني في الجنوب اللبناني، موقفان يستأهلان التقدير والتشجيع.
مع ذلك، موقفا اليونيفيل لا يختصران مهمة القوة ودورها وفاعليتها وأهدافها، تماماً كما لا يعبّر الموقف المعلن عن «مصادر عسكرية إسرائيلية رفيعة» قبل يومين، بأن القوة الدولية لم تعد ضرورية، عن الموقف الإسرائيلي الفعلي من القوة، وإمكان التخلي عنها. وكي لا تضيع بوصلة التحليل وتنحرف لتتماشى مع الإسرائيليين وأهدافهم المبيتة من «هجومهم» على اليونيفيل، تجدر الإشارة إلى الآتي:
قرار إنشاء قوة اليونيفيل يعود إلى عام 1978، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب اللبناني. قوة أممية «مؤقتة» امتدت فترة انتدابها إلى ما يقرب من 40 عاماً، ولا يبدو أن في الأفق ما يشير إلى عدم تمدد انتدابها للعقود المقبلة. ومن بدء انتشار القوة بتاريخ 23 آذار 1978 حتى الآن، لم تكن عامل ردع أو كبح للإسرائيلي عن اعتداءاته في لبنان، لا في اجتياح عام 1982، ولا قبله، ولا بعده. ولا في اعتداءاته عام 1993 وعام 1996 وما بينهما، وكذلك في حرب عام 2006 وما قبلها.
ليست اليونيفيل عامل ردع لإسرائيل، وذلك مثبت تاريخياً، ولا ضرورة للاستدلال عليه، بل إن الإسرائيلي نفسه لم يزعم يوماً أن اليونيفيل منعته من شنّ أيّ اعتداء على لبنان، طوال ما يقرب من 40 عاماً مضت. هذا لا يعني أن القوة الدولية منتفية الفائدة، أو الدعوة إلى إنهاء انتدابها في جنوب لبنان، ولسنا هنا في صدد المطالبة بذلك، لكن من ناحية إسرائيل، لم تشكل القوة أيّ حائل بينها وبين اعتداءاتها، صغرت الاعتداءات أو كبرت.
الحديث المتداول لدى البعض، عن سوء نية أو حسن نية، بأن إخراج اليونيفيل وإنهاء مهماتها في جنوب لبنان إشارة مسبقة على اقتراب الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، هو خديعة إسرائيلية بامتياز، والانسياق وراءها يُعدّ تعبيراً عن جهل وسذاجة أو تجاهل، وربما أيضاً عن تواطؤ. بحكم التجربة المتكررة، لا دور سلبياً أو إيجابياً لوجود اليونيفيل أو لانتفاء وجودها، كي يمنع أو يدفع أو يعرقل اعتداءات إسرائيل واجتياحاتها وحروبها. وعلى افتراض نظري لا يبرز خلال السنوات الماضية ما يشير إلى إمكان تحققه، فإن خروج اليونيفيل من لبنان إن سبق حرباً مستقبلية، فقد يعني فقط أنه نتيجة مسبقة للحرب، وليس سبباً دافعاً إليها وفي بلورتها وإقرارها وتنفيذها. المعنى في ذلك، يكون قرار الحرب قد سبق خروج اليونيفيل من لبنان، أي بمعنى أنه نتيجة لقرار الحرب، وليس سبباً دافعاً لها، علماً بأن هذا السيناريو أيضاً مستبعد منطقياً وعملياً.
من ناحية ثانية مرتبطة بجملة الانتقادات الإسرائيلية الأخيرة لليونيفيل ودورها، بل وأيضاً الحديث عن أنها «ورقة توت» لحزب الله، يطرح السؤال الآتي: ما البديل لدى إسرائيل من اليونيفيل؟ الإجابة القطعية أنه لا يوجد، وإلا ما كانت القوة لتبقى وتستمر طوال أربعين عاماً. لدى اليونيفيل من الفوائد والفرص لإسرائيل، سياسياً وعملياً واستخبارياً... ما يفوق، وبأشواط، مجرد امتناع عن التماشي مع رواية إسرائيلية هنا أو هناك.
القراءة المتأنية للحملة الإسرائيلية الجديدة، وتحديداً سياقها مع مستجد أميركي يسعى إلى تقليص تمويل قوات حفظ السلام حول العالم، قد يضيء على الأهداف الإسرائيلية من الحملة، وهي محاولة فرض أجندة إسرائيلية على الطرف الآخر، وتحديداً الدولة اللبنانية، وأيضاً على القوة الدولية نفسها ورعاتها، مع الأمل ــ تحت هول التهديد والتلويح بسحبها وإنهاء مهماتها ــ بما يتيسر لها من تغيير بنود تفويضها ودفعها إلى مواجهة المقاومة، بما يتساوق تماماً مع المصالح الإسرائيلية.
كما يبدو، تشارك الولايات المتحدة إسرائيل في مساعيها. كلام المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة، بلهجة تهديد من على الحدود الفلسطينية مع لبنان، عن ضرورة إنهاء انتداب القوات الدولية غير الفاعلة حول العالم، كما هو وضع اليونيفيل على سبيل المثال، ما لم تعطَ الإمكانات والتفويض والتزويد بالوسائل التي تمكّنها من تنفيذ عملها المطلوب منها في جنوب لبنان. وكلام هايلي جاء رداً، كما أشارت وسائل الإعلام العبرية، على مطالبة نائب رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، افيف كوخافي، المندوبة الأميركية بضرورة العمل على تغيير صلاحيات اليونيفيل وتزويدها بما أمكن لمواجهة حزب الله.
في الخلاصة، لا يمكن لإسرائيل أن تستغني عن مهمات اليونيفيل في زمن اللاحرب، كما هو الوضع القائم حالياً، سواء كانت الفائدة منها كاملة ومطلقة، أو أقل من ذلك. كذلك فإنه لن يضرّ إسرائيل وجود القوة الدولية من عدمه، في زمن الحرب. عوامل منع الحرب والاعتداءات وردع إسرائيل عن مباشرتها، مرتبطة بالحرب نفسها وبالطرف المقابل وبالأثمان المقدّر أن تدفعها وتداعياتها، ولا يشكل وجود اليونيفيل أيّ علاقة، من قريب أو بعيد، بردع إسرائيل أو صدّها.
نعم، إسرائيل معنية، في محاولة منها لفرض ما أمكن من تعديلات على تفويض اليونيفيل لمواجهة حزب الله، ودفعها كي تكون إسرائيلية بامتياز، خاصة أنها (إسرائيل) ترى الفرصة سانحة ومؤاتية، في ظل توجهات أميركية عامة لتقليص مساهماتها المالية في قوات حفظ السلام حول العالم، الأمر الذي يشكل فرصة إضافية لفرض التعديلات والمصالح الاسرائيلية، التي قد لا تكتمل من دون التهويل على القوة الدولية وتوجيه الانتقاد لها والتهديد بإنهاء تفويضها، في موازاة التهديد بالويلات على لبنان، في حال انسحابها.