مَن قال إنّ التشهير لا يَنفع؟ عندما تُبادر مؤسسة حكوميّة، كقوى الأمن الداخلي، إلى نشر لوائح بأسماء الذين أطلقوا النار في الهواء، ابتهاجاً بنجاح أولادهم في الشهادة المتوسّطة، مع ملاحقتهم وتوقيف مَن أمكن مِنهم، فهذا يعني أنّ ظاهرة جديدة طرأت على الظاهرة القديمة. آخر الدواء الكيّ، هكذا يُمكن تفسير ما حصل، وبالتالي هو إعلان يأس مِن كلّ المُعالجات السابقة، بدءاً مِن النصائح الأبويّة والإعلانات التوعويّة وليس انتهاءً بالتحريم الديني.
يَظهر أنّ مُطِلق النار، المُبتهِج، لا يأبه بكلّ ما ذُكِر، إنّما لا يُمكنه عدم الاكتراث لفكرة توقيفه وتغريمه... وأحياناً سجنه. عندما أصبح الخطر عياناً، ملموساً، رأينا كيف صوت الرصاص تضاءل (مقارنة بالسنوات الماضية). أصبحت لوائح الأسماء المنشورة حديث الكثيرين في المُدن والقرى. ترافق هذا مع موجة تحقير على المستوى الشعبي، خاصّة في وسائل التواصل الحديثة، بحقّ الفاعلين. لن يَحتمل مَن يُطلِق النار، مزهواً، وقد ظنّ أنّه سيوصف بالبطل، أو الشجاع، أن يَجد مُجتمعه يَصفه بـ"الحمار". لم تعد المسألة مجرّد إقلاق راحة، مِن خلال صوت الرصاص، إذ راحت، في الآونة الأخيرة، أسماء قتلى ذلك الرصاص تتزايد بنحو غير مسبوق. كان لا بدّ للمجتمع أن يَفعل شيئاً للدفاع عن انتظام حياته... أو ما بقي مِنها.
غاية القانون، في الأساس، الحفاظ على ديمومة حياة الجماعة البشريّة، وفي الوقت الذي يفقد القانون فلسفته يُصبح خرقه واجباً. هذه لا تحتاج إلى إرشاد مِن أحد. تأتي بلا تخطيط. تحصل تلقائيّاً. لا أحد يُجادل الآن في أنّ ما يَحصل هو معالجة للنتيجة، لا السبب، لكن هذا النقاش يُصبح ترفاً عندما تكون دماء "قتلى الابتهاج" تتدفّق. فليُكمل الباحثون التربويّون والواعظون عملهم.
إلى قبل يومين، كانت لائحة قوى الأمن الداخلي تضمّ 190 اسماً. أمّا عدد الذين أوقفوا مِنهم فبلغ 61 شخصاً (على الأرجح أن الرقم سيزداد). هنالك الآن نحو 130 شخصاً يَعرفون أنّ قوى الأمن تُلاحقهم. أنّ الجميع يَهمس بأسمائهم.

أصبحت لوائح الأسماء المنشورة حديث الكثيرين في المُدن والقرى

أنّ ما كان يَفعله الواحد مِنهم سابقاً، مِن غير أن يطاله أحد، أصبح الآن "جريمة" كفيلة بأن تجعله يتعرّض لـ"البهدلة". كم سيكون الأمر قاسياً على مَن لديه نزعة طاووسيّة مع نفسه. هذه وحدها عقوبة. الأهم مِن ذلك، أنّ هؤلاء، بعيداً عن الأمن، يَرون أنّ شريحة لا بأس بها مِن مجتمعهم، وهي آخذة بالتوسّع (ولو مِن باب التقليد)، باتت تصفهم بـ"البغال" وتنال مِنهم بأفظع الشتائم.
اللافت أنّ اللوائح المنشورة، على دفعات، تطال كافّة المناطق اللبنانيّة، والأهم أنّها تشمل مختلف الطوائف والمذاهب. لا أحد بريء مِن هذه السفاهة. هذه مُهمّة في لبنان. التوقيفات أيضاً حصلت في مختلف المناطق. القرار مأخوذ على مستوى عالٍ هذه المرّة. الأمنيّون يتحدّثون عن تعاون الأحزاب في المناطق إضافة إلى الفاعليّات الأهليّة. الكلّ يُريد التخلّص مِن هذا الكابوس. المدير العام لقوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، نسّق حملة "التشهير" والتوقيف مع النيابة العامة التمييزيّة. إنّه الغطاء القانوني. أعمار مطلقي النار في الهواء متفاوتة جدّاً. هذه إشارة إلى أنّ الظاهرة غير محصورة في فئة عمريّة معيّنة. تجد بينهم العجوز وكذلك ابن الـ 17 عاماً. بعض ألقاب المُلاحقين الآن فيها شيء مِن الطرافة. أحدهم يُعرَف بـ"أبو طوشة". دلالة الاسم تكفي. آخر يُعرف بـ"اللذّ". هذا يحتاج إلى تفسير. الحديث إلى هنا عن إطلاق النار مِن أسلحة حربيّة، لكن ماذا عن المفرقعات الرهيبة، التي يزيد صوت بعضها عن صوت القنابل اليدويّة؟ رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، العقيد جوزف مسلّم، يقول إنّها "مخالفة للقانون أيضاً، إنّما علاجها في مكان آخر، في معابر التهريب التي تأتي مِنها، وهذه آفة قديمة للأسف بقيت بلا حلّ". يَنشط مسلّم، إعلاميّاً، بنحو مكثّف أخيراً في مواجهة الرصاص القاتل، ويُنسّق مع مختلف وسائل الإعلام إضافة إلى بثّ الدعاية على مواقع التواصل الاجتماعي.
الرصاص يَقتل، صحيح، لكن إزعاجه، واقعاً، يبقى أقلّ مِن المفرقعات (التي يُصنّف بعضها مِن ضمن المتفجّرات) الكفيلة بإحداث تلوّث سمعي مزمن. إزعجاها في تواصلها. عموماً، الأولويّة الآن للدماء التي تسيل. لِما يَقتل. أمّا مَن يُريد حلّ مسألة المفرقعات المُرعبة، فعليه أن يَسأل "الجمارك" عنها. مِن أين تأتي تلك الكميّات الهائلة طالما أنّ القانون يَمنع استيرادها!
الرهان الآن على استمرار "التشهير" الأمني، إلى جانب "التحقير" الشعبي، تجاه ظاهرة الرصاص الغبي، وإلا فإنّ ما حصل سيكون بمثابة "فورة كبد" وتنتهي. ربّما نكون اليوم أمام فرصة تاريخيّة لمعالجة تلك الظاهرة. بورك التشهير. بورك التحقير. لا شيء أقدس مِن الحياة.