أين يَذهب أحدنا حتّى لا يكون موته رخيصاً؟ كميتة ذبابة، كحشرة، أو أرخص. نُهاجر؟ إلى أين، والكوكب أصبح، أو يَكاد، يَكرهنا؟ والآتي أكره. العالم، برمّته، مُقبل على طوفان كراهية. أن تبقى مكانك، حيث أنت، فتتعايش ما أمكنك، ذلك هو قدرك. أن تُناضل، أو أكثر ما يُمكنك أن تسعى إليه، الآن، في بؤر العالم السُفلي، هو ألا تكون نهايتك كنهاية محمد عطوي. الشاب الذي عاد مِن ألمانيا، بعد رحلة عمر مليئة بالمأساة، فكانت رصاصة "طائشة" كفيلة بإنهاء حياته. طائشة؟ أبداً. ما عاد هذا التوصيف صائباً. رصاصة قاتلة. هذه هي. أطلقها قاتل. أطلقها كائن يَفيض تفاهة. هذا أيضاً صنيعة منظومة تافهة. ليس حادثاً فرديّاً، بتاتاً، إنّه نمط. إنّه أسلوب حياة.يَستيقظ محمد صباحاً. يَخرج إلى الشرفة، في منزل عمّته، في منطقة حيّ السلم، في الضاحية الجنوبيّة لبيروت... فيموت. خرج إلى الشرفة لكي يُدخّن سيجارته الصباحيّة. رصاصة آتية مِن أسفل تخترق رأسه. ليس جميلاً النظر في تلك الصورة التي نشرها له البعض، وقد أصبح جثّة، مُمدّداً على الأرض، مُرتدياً ثياب النوم... غارقاً في دمه.

تسمع عمّته صوت ارتطامه بالأرض. تركض. تصرخ. فارق الحياة. رصاصة تافهة، مِن كائن تافه، لسبب أتفه، لم تُصب أحداً مِن المحتشدين تحت في "حفلة التفاهة". أصابت فقط مَن لا علاقة له بما يحصل. إشكال بين عائلتين، أو أفراد ممسوخين مِن عشيرتين، على خلفية "تلطيش" فتاة، فغضبة "عرض" مُفتعلة، فإطلاق رصاص، فيموت محمد عطوي. لم يعد خبر كهذا "سكسيّاً" بما يكفي حتّى يَسيل لُعاب "إعلام السوق" لأجله. لم يعد لائقاً أن يكون "قضيّة" اليوم. لقد أصبح "عاديّاً". المُتلقّي يُريد موتاً جديداً. المعنى الأوضح لتحوّل الإنسان، بل حياته، إلى "شيء"... ما دون الخبر.
عندما نتواصل مع القوى الأمنيّة، نعرف أنّه، بعد جهد تهديدي، جرى توقيف أربعة أشخاص "مشتبهين". ليس بينهم من أطلق الرصاصة القاتلة. أين هو؟ لقد توارى عن الأنظار. بالمناسبة، بحسب القانون الذي أقرّ حديثاً، ويا للصُدف، فإنّ إطلاق النار في الهواء تصل عقوبته إلى السجن مدّة ثلاث سنوات، وإن لم يُصَب أحد بأذى. أمّا إذا أدّى الفعل إلى موت أحدهم، فالعقوبة لا تقل عن عشر سنوات، فضلاً عن الغرامة الماليّة. القانون يتعامل نظريّاً مع الفعل هنا على أنّه قتل "غير عمد". كأنّ هذه التوصيفات تفيد المقتول شيئاً. هذا القانون الذي ترافق إقراره مع انتخاب رئيس للجمهوريّة، وبداية "العهد الجديد" كما يُقال، جاء، كما صرّح مقدموه، للحد مِن ظاهرة إطلاق النار في الهواء. القوى الأمنيّة، وقبلها وبعدها كلّ القوى السياسيّة، أمام الاختبار الآن. هل سيُلقى القبض على قاتل محمد عطوي؟

لم يعد خبر كهذا «سكسيّاً» بما يكفي حتّى يسيل لُعاب «إعلام السوق» لأجله

أيام قليلة كانت تفصل محمد عن التحاقه بعمله الجديد، في السفارة الألمانيّة في لبنان، بصفة مُترجم. قيل إنّه يُجيد خمس لغات. ترك بلاد الغرب الذي يحمل جنسيّته، بكامل إرادته، وجاء ليستقر في بلده الأم. قصّة حياته، قبل مقتله، مأساة قائمة بذاتها. قضى عمره بعيداً عن أمّه. أخذه والده مِنها وعاش في ألمانيا. لاحقاً، فصلته السلطات الألمانيّة عن والده، لعدم أهليّته الصحيّة بأن يرعاه، فعاش في دور حماية الأطفال. كان عمره 3 سنوات. عندما أتمّ السن القانونيّة، عاد إلى والده، إلا أنّ الأخير توفّي بعد نحو شهر. أصبح آنذاك عمره 18 عاماً. نُقل جثمان والده إلى لبنان، حيث دُفن، وذلك على نفقة الجالية اللبنانيّة في مدينة باوينهوزن الألمانيّة، كما يقول أحد عارفيه. جاء محمد إلى لبنان، ولم يكن يتكلّم العربيّة، وبدأ يتعرّف إلى عائلته. التقى بأمّه، التي عاد معها إلى ألمانيا، قبل أن يُقرّر بعد سنوات المجيء وحده إلى لبنان. كان في نيّته الزواج والاستقرار، ولو مرحليّاً، فانتهت حياته برصاصة في الهواء، في رأسه، في حيّ السلّم. قد يَحصل هذا في أيّ مكان في العالم، إنّما الفارق في الثمن، في ألا تكون حياتك "رخيصة" جدّاً. كان وجوده في المنطقة لمجرّد الزيارة. شيء ما جعل محمد يُحبّ لبنان. ربّما دفء العائلة الذي حُرم منه طويلاً. دفء الانتماء. يصعب الآن فهم ما الذي كان يدور في خاطره. لكنّه، وهذا مؤكّد، لم يكن يعرف قوانين العشوائيّات. لتلك البؤر قوانينها الخاصّة جدّاً، وهذه لا يعرفها، بعمق، أولئك الذين يقطنون على بُعد كيلومترات قليلة عنها، فما بالك بالآتي من الضفّة الأخرى للمتوسّط. ربّما عاش الشاب تجربة استكشافيّة مشوّقة، لعوالم لعلّه لم يخطر في باله سابقاً أنّها موجودة، فكان ما كان. إنّها موجودة فعلاً... وقد قتلته.