على ابواب اقتراب انقضاء شهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف اولى حكومات العهد، 3 كانون الاول، يصبح احتساب امرار الوقت امرا ذا شأن، ويبدأ بالخروج من المهلة المعقولة لبداية عهد يكون انقضى عليه هو الآخر، غدا، شهر على انتخابه.
بعض التفسيرات المبسطة يتحدث عن خلاف على توزيع المقاعد والحقائب. لكن سواه من التفسيرات يتحدث عما هو ادهى: بشائر محاولة تلاعب بالتوازنات والاخلال بها للمرة الثانية منذ انتهاء الحقبة السورية في لبنان: الاولى عام 2005 على اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والثانية اليوم مع وصول الرئيس ميشال عون الى رئاسة الجمهورية.
واقع الامر ان كلا من الثنائيتين المسيحية والشيعية في قلق احدهما حيال الاخرى، بينما الاحادية السنّية التي لا تزال تقتصر على الحريري الى مزيد من الانكفاء شعوراً منها بالوهن والتراجع لاسباب شتى: بينها ما يرتبط بزعامة الحريري نفسه واحواله المالية الصعبة وعجلته في العودة الى الحكم ايا يكن الثمن، وما يرتبط بذهابه المرغم الى انتخاب عون رئيساً للجمهورية بعدما عانده بضراوة مرشحا طيلة مرحلة الشغور، وما يرتبط بالاحداث الاقليمية المتسارعة بدءا مما باتت عليه الحرب السورية ودور حزب الله فيها. لم يعد الفريق السنّي، وتحديدا الحريري، قادراً كما عام 2005 على قيادة اوسع تحالف سياسي وطني، ولا ادارة التفاوض على تأليف حكومته كما لو انه «الرئيس القوي» الذي يوزّع الحصص شأن ما كان عليه الرئيس فؤاد السنيورة في حكومة عامذاك.

ترك عون لبري حماية فرنجيه ووجوده السياسي في الحكومة


بيد ان ثمة اسبابا مختلفة لقلق الثنائية المسيحية، والاصح المارونية، وحماستها تاليا، وكذلك لتلك الشيعية:
اولها، الاسلوب الملتبس الذي يتوسله رئيس الجمهورية في تأليف اولى حكوماته تبصره الثنائية الشيعية بكثير من التوجس. فهو يمارس دوره كشريك فعلي في تأليفها يملك حق الفيتو والعزل وسلطة المكافأة، كما لو ان صلاحيات رئيس الجمهورية لمّا تزل في حقبة ما قبل اتفاق الطائف. وهو يوزّع الحقائب المسماة سيادية او خدماتية على الافرقاء على غرار ما خبرته حكومات ما بعد اتفاق الطائف. وهو يتمسك بحصته كرئيس بثلاثة وزراء على نحو ما لحظه له اتفاق الدوحة.
ثانيها، للمرة الاولى في تأليف حكومة منذ تطبيق اتفاق الطائف، تشهد موازين القوى الداخلية، ويختبره بالذات الفريقان السنّي والشيعي، فريقاً مسيحياً قوياً متماسكاً يطرح نفسه مفاوضاً رئيسياً لم تتسلل اليه الانقسامات، ولم يسع اي منهما التلاعب به او اغراءه. قبل انتخابه ابرم عون اتفاقا مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على تقاسم المقاعد الوزراية، رغم معرفته بنفور حليفه الشيعي حزب الله من الحليف المسيحي الجديد وشكوكه فيه الى حد الانزعاج. واذ باحدى عقبات تعذر التكليف حتى هذا الوقت، ان التيار الوطني الحر لا يكتفي بالاصرار على الدفاع عن هذا الاتفاق وحقوق الشريك المسيحي، بل يذهب الى حد «معاقبة» فريق مسيحي آخر، كالنائب سليمان فرنجيه، لعدم تأييده انتخاب الرئيس. تضاعفت المشكلة ايضا عندما باتت القوات اللبنانية وجها لوجه مع الثنائية الشيعية: رفض حزب الله ما وعدها به رئيس الجمهورية وهو حقيبة سيادية، ورفض الرئيس نبيه بري تخليه عن حقيبة خدماتية اساسية كالاشغال تعوض الحقيبة السيادية.
ثالثها، ان الرئيس في ضوء القطيعة الكاملة، كما حزبه، مع فرنجيه ترك حماية نائب زغرتا لرئيس مجلس النواب كي يدافع عن وجوده السياسي في الحكومة وحصته على النحو الذي يسترضيه اولا واخيرا، ويربط مشاركته هو كما حزب الله في الحكومة بمشاركة فرنجيه. لم يتلقف رئيس الجمهورية حماية حليفه الماروني الزغرتاوي منذ عام 2006، مذ ابرمت وثيقة التفاهم مع حزب الله، وكان في كنف تكتليه النيابي والوزاري وحليفه الانتخابي الى ان فرّق بينهما التنافس على الرئاسة. بدوره حزب الله لا يقل عن بري تمسكاً بحماية فرنجيه الذي هو حليفه منذ ما قبل اتفاق الطائف حتى.
رابعها، في ظل انكفاء شبه تام للفريق السنّي والرئيس المكلف المهموم باستعجال تأليف حكومته، تبدو الثنائيتان الشيعية والمسيحية في اشتباك معلن. كل منهما ترسم حدودا جديدة في التعاطي مع المرحلة المقبلة. ما يقوله بري في العلن هو نفسه ما يقوله حزب الله في صمته. بالتأكيد يحاول رئيس الجمهورية، حليف حزب الله وجعجع في آن وسط ضراوة الخصومة بين هذين الفريقين، اتخاذ موقع وسط بينهما.
يتصرّف التيار الوطني الحر نيابة عن الرئيس وكذلك حزب القوات اللبنانية على انهما ربحا انتخابات الرئاسة. رفع جعجع السقف اكثر من اي وقت مضى، على نحو ما فعل ذات مرة على ابواب تأليف حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1990 بالمطالبة بالحصة المسيحية الوازنة فيها بما يمنحه الثلث المعطل وقتذاك على انه الشريك المسيحي الوحيد القوي في معادلة اتفاق الطائف، بينما الرئيس امين الجميل في باريس والعماد ميشال عون داخل اسوار القنصلية الفرنسية. فأعطبت دمشق محاولته تلك. عام 2005، في اول توزير لحزبه بعد جلاء الجيش السوري، بالكاد أُعطي جعجع حقيبة السياحة لجوزف سركيس، وقد عدّه الشريكان السنّي والدرزي في قوى 14 آذار ثالثهما. في حكومة ما بعد اتفاق الدوحة عام 2008 برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة ايضا لم يوافق الآخرون على منحه حقيبة العدل الا عبر شخصية غير حزبية مقدّرة، فيما نال الوزير الثاني انطوان كرم حقيبة البيئة فحسب. لم تكن حكومة 2009 برئاسة حليفه الحريري احسن حالا: بقي الدكتور ابرهيم نجار في حقيبة العدل وأُعطي الوزير الثاني سليم وردة حقيبة الثقافة. غاب عن حكومتي الرئيسين نجيب ميقاتي وتمام سلام.
ها هو جعجع اليوم يبدأ من حيث انتهى عام 1990. في حسابه السياسي ثمة مسيحي رابح يحصد، وآخر خاسر هو فرنجيه لا مكان له. حصته مناصفة مع الحليف الجديد التيار الوطني الحر. حصته في حقيبة سيادية لا منازع عليها قبل ان يسلّم بتعويضها بنيابة رئاسة الحكومة. سوى ذلك كله يعتبر نفسه الاب الاول لانتخاب عون رئيسا ما دام حزب الله يعتبر نفسه الاب الاول لترشيحه.